العدالة الانتقالية في سوريا.. دروس وعبر من تجربة المغرب

تشكل العدالة الانتقالية ركيزة أساسية للدول التي تنتقل من أنظمة السلطوية إلى الانفتاح والديمقراطية، حيث تمكنها من تجاوز إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتأسيس آليات للمصالحة، إلى جانب وضع ضمانات دستورية وقانونية تضمن عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات في المستقبل.
بعد سنوات من الصراع الدموي الذي أنهك سوريا، ومع انهيار النظام السابق وتشكيل حكومة جديدة تسعى لإعادة بناء الدولة، يبرز سؤال العدالة والمصالحة كواحد من أهم التحديات في مرحلة ما بعد النزاع. فبين حطام الماضي وتطلعات المستقبل، لا يمكن تحقيق استقرار دائم دون معالجة آثار الانتهاكات التي ارتُكبت بحق آلاف السوريين خلال سنوات الحرب.
وفي هذا السياق، تبرز تجارب العدالة الانتقالية في دول خرجت من فترات قمع وصراع، كنماذج يمكن الاستفادة منها. ومن بين هذه النماذج، تحضر تجربة المغرب باعتبارها تجربة فريدة في العالم العربي، واجهت ماضيها بشجاعة، وأطلقت مسارا للعدالة الانتقالية ساهم في ترميم الذاكرة الجماعية وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
وقد أنشأ المغرب هيئة الإنصاف والمصالحة التي احتفلت مؤخرا بالذكرى العشرين على تأسيسها، معتبرة محطة تاريخية بارزة ضمن ما كان يعرف بـ”العهد الجديد” المرتبط بمسار العدالة الانتقالية.
ولعبت هذه الهيئة دورا محوريا في إرساء مصالحة وطنية مؤسساتية شاملة، مكنت المغرب تجاوز ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت بين 1956 و1999 والمصالحة معه، والعمل على قطع نهائي مع تلك المرحلة، انطلاقا نحو مستقبل يرتكز على احترام حقوق الإنسان وترسيخ مبادئ العدالة.
وعانى المغرب خلال ما يعرف بـ”سنوات الرصاص”، من موجة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، شملت الاعتقال السياسي، التعذيب، والاختفاء القسري. لكن المملكة اختارت، في مطلع الألفية الثالثة، الاعتراف الرسمي بما جرى، وأطلقت عام 2004 هيئة الإنصاف والمصالحة، أول هيئة عدالة انتقالية في المنطقة، هدفها الحقيقة والمصالحة وضمان عدم التكرار.
هذه التجربة المغربية تميزت بمقاربتها الشمولية التي لم تقتصر على المحاسبة، بل اعتمدت على الاعتراف، الإنصاف، جبر الضرر، والإصلاح المؤسساتي. وقد شارك الضحايا في هذه العملية، وعبّروا عن مطالبهم في جلسات استماع علنية نقلت على الهواء مباشرة، في خطوة غير مسبوقة في العالم العربي.
وأسس الخطاب الملكي فلسفة عمل هيئة الإنصاف والمصالحة بقيادة المعتقل السابق إدريس بنزكري، منطلقا من البحث عن الحقيقة حول الانتهاكات التي شهدتها سنوات ماضية، والمصالحة معها، وتعويض الأضرار الناتجة عنها، دون إصدار أحكام تاريخية مسبقة.
واستند عمل الهئية على قول الملك محمد السادس: “حين نسترجع خمسين سنة ماضية، لا نرغب في أن نكون حكما على التاريخ، الذي يجمع بين الإيجابيات والسلبيات. فالمؤرخين وحدهم هم المختصون لتقييمه بنزاهة وموضوعية، بعيدا عن أي اعتبارات سياسية آنية.”
قضى إدريس بنزكري، 17 سنة في السجن وتعرض للتعذيب خلال هذه الفترة، لكنه عاد ليترأس الهيئة، واضعا مصلحة الوطن فوق الألم الشخصي. بنزكري وآخرون مثله أدركوا أن بناء مستقبل جديد يتطلب رباطة جأش استثنائية من الضحايا، وتغليب المصلحة الوطنية، ورفض منطق الانتقام والانتقام المضاد.
من جانبها، تعاملت الدولة المغربية مع هذا المسار بقدر كبير من المسؤولية السياسية، من خلال تقديم الاعتذار الرسمي للضحايا، وتخصيص تعويضات مادية ومعنوية، وكشف بعض الملفات المغلقة، والشروع في إصلاح الأجهزة الأمنية.
اليوم، سوريا ما بعد الحرب تجد نفسها أمام استحقاق مماثل: كيف يمكن تجاوز الماضي دون دفنه؟ كيف تبنى دولة جديدة على أسس من الإنصاف والمحاسبة والمصالحة؟ الإجابة تكمن – جزئيا على الأقل – في اعتماد مسار عدالة انتقالية حقيقي، يضمن كشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، ووضع ضمانات دستورية ومؤسساتية حتى لا تتكرر الانتهاكات.
إن العدالة الانتقالية، كما تظهرها التجربة المغربية، ليست ترفا سياسيا ولا مسارا نظريا، بل هي آلية مجتمعية عميقة لإعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. إنها لا تقصي أحدا، لكنها لا تنكر ما حدث. لا تدعو للانتقام، لكنها تصر على الاعتراف والمحاسبة والتعويض.
وبينما لا يمكن نسخ التجارب من بلد إلى آخر، إلا أن المبادئ الكونية للعدالة الانتقالية – الحقيقة، العدالة، جبر الضرر، وضمان عدم التكرار – تظل أساسا يمكن لسوريا أن تنطلق منه وهي تفتح صفحة جديدة في تاريخها.
المصالحة لا تعني النسيان، بل الاعتراف. وبناء الدولة لا يبدأ بإغلاق الجراح، بل بتطهيرها والإنصات لمن عانوا، ثم العمل الجماعي من أجل مستقبل مختلف.
حسن قديم
مدير نشر موقع الميدان بريس