فلسطين.. قلب الصراع ومفتاح النهضة

فلسطين ليست مجرد أرض أو قضية سياسية فحسب، بل هي عنوان الصراع الحضاري بين من يسعى للحرية والكرامة ومن يحاول فرض الهيمنة والقهر. لذلك، تبقى فلسطين بوصلتنا التي تحدد مسار النهضة والتحرر للأمة.
إن ما يجري في منطقتنا، من قصف ودمار وحصار على قطاع غزة واعتداءات متكررة، لا يمكن قراءته فقط في إطاره العسكري أو الأمني، بل يجب وضعه في سياق أوسع وأعمق: إنه امتداد لحرب حضارية تشن ضد الأمتين العربية والإسلامية، وضد كل مشروع يسعى إلى التحرر وبعث الكرامة.
الهجمات التي نتابعها ليست مجرد عمليات عسكرية، بل أدوات لإعادة تشكيل الوعي، وتكريس رواية المنتصر. إنها محاولة مستمرة لتشويه معاني المقاومة، وتثبيت مقولة إن “الهيمنة قدر”، و”الاستسلام حكمة”.
ولا يقتصر هذا العدوان على فلسطين وحدها، بل يمتد ليطال إيران وسوريا ولبنان واليمن، حيث تتواصل محاولات التدخل العسكري والسياسي لتقويض مشاريع المقاومة في كل هذه البلدان، وتفتيت أواصر الوحدة والتضامن بين الشعوب العربية والإسلامية. هذا العدوان يعكس رغبة واضحة في استنزاف قوة الأمتين العربية والإسلامية عبر استهداف مراكز نفوذها ومقاومتها، لفرض واقع يخدم مصالح قوى الهيمنة الغربية والصهيونية.
ومن أبرز وجوه هذا الاستهداف الحضاري، الحرب المعلنة على أي محاولة عربية أو إسلامية للاستقلال المعرفي والعلمي. فقد استهدفت مقاتلات إسرائيلية من طراز F-15 وF-16 في 7 يونيو/حزيران 1981 مفاعل تموز النووي العراقي، ودمرته بالكامل تقريبا، في عملية سُمّيت “أوبرا”، وأسفرت عن مقتل عشرة عراقيين ومدني فرنسي. واليوم، تستمر هذه الاستراتيجية ذاتها من خلال استهداف المفاعلات النووية الإيرانية واغتيال العلماء، في تأكيد على أن امتلاك أدوات المعرفة يرعب خصوم الأمتين العربية والإسلامية.
وتعرض علماء وباحثون عرب للاغتيال في ظروف غامضة، حيث وجهت في أغلب الحالات الاتهامات لجهاز الموساد الإسرائيلي بالوقوف خلف هذه العمليات. من بين هؤلاء العلماء، سمير نجيب، العالم المصري في مجال الذرة، الذي لقي حتفه عام 1967 في حادث اصطدام غامض. وكذلك رمال حسن رمال، العالم اللبناني الذي توفي عام 1991 في مختبر فرنسي دون أن تتضح أسباب الوفاة. كما شملت القائمة إبراهيم الظاهر، العالم العراقي الذي أُطلق عليه النار عام 2004 في مدينة بعقوبة.
و في إيران، استهدف الموساد عدة علماء نوويين، من بينهم مسعود محمدي ومجيد شهرياري، اللذان اغتيلا عام 2010 بعمليات تفجير دقيقة نفذها ملثمون. وتبعهم مصطفى أحمد روشن الذي اغتيل في 2012 بنفس الطريقة. هذه الاغتيالات رافقها اتهامات رسمية من إيران للموساد.
وفي تونس، اغتيل المهندس محمد الزواري عام 2016، حيث ألقت السلطات التونسية القبض على عدد من المتهمين في القضية، وربطت الحادثة بالموساد، كما استشهدت العالمة المصرية سميرة موسى في حادث سيارة عام 1952 في كاليفورنيا، وسط شائعات عن تورط الموساد في اغتيالها بسبب رفضها التعاون مع الولايات المتحدة.
إسرائيل وأمريكا تدركان أن العلم أخطر من أي صاروخ، وأن العقل العربي الحر هو العدو الحقيقي لأي مشروع هيمنة. لذلك تُضرب المفاعلات وتُغتال العقول كي يبقى العرب تابعين، محرومين من أي إمكانية للتقدم التكنولوجي والعلمي.
لكن ما لم تحسب له تلك القوى حسابا، هو أن هذه القنابل والاغتيالات — بما تحمله من عنف ووحشية — قد باتت تفضح حقيقة الصراع وتعيد تشكيل الوعي.
من هنا، تبرز ضرورة حيوية لمواجهة هذه الحرب الشاملة، ألا وهي دعم البحث العلمي والتقني في الدول العربية. فالقوة الحقيقية للأمم لا تُقاس فقط بالأسلحة أو القوة العسكرية، بل بالمعرفة والابتكار والقدرة على تطوير الذات. إن الاستثمار في البحث العلمي هو السبيل لبناء مستقبل قادر على استيعاب تحديات العصر، وتحرير الأمة من تبعية التكنولوجيا والمعرفة التي تُفرض عليها من الخارج.
وبجانب ذلك، لا يمكن لنا أن نواجه هذه المحاولات المتعمدة لتفريق وتشتيت الأمة إلا عبر الوحدة. إن ما يجري يهدف في جوهره إلى تحويل الدول العربية إلى دويلات صغيرة تابعة، بلا قرار ولا موقف مستقل، سهلة التحكم والتوجيه. لهذا، فإن توحيد الأمة العربية والإسلامية من الضرورات الاستراتيجية التي لا تحتمل التأجيل، لأن الوحدة هي الخط الدفاعي الأول في وجه محاولات الاستعمار الحديث.
إن الوعي هو ساحة المعركة الحقيقية. وحين تفجر القنابل، فإنها لا تهدم المباني فقط، بل تفسح المجال أيضا لبناء وعي جديد. وذاك هو أخطر ما يرعب المعتدين.
لذلك، فإن دعم العلم والبحث والتطوير، وتفعيل روح الوحدة والتضامن بين شعوبنا، ليس رفاهية بل واجب وطني وحضاري. إنه السبيل الوحيد لاستعادة كرامتنا، ولإعادة بناء أمة قادرة على صناعة مستقبلها بيدها، بعيدا عن الوصاية والتبعية.
حسن قديم