ابتهال أبو سعد.. صرخة في وجه الإبادة

عادة في العمل ومصدر الرزق يختار الأجير العادي الابتعاد تمامًا عن إثارة المشاكل والدفاع عن مواقفه، إذا كانت تخالف رؤساءه، والاحتفاظ بآرائه لنفسه، بل قد يتنازل عن حقوقه ويتفرغ لكسب العيش، لكن ابتهال اختارت الطريق الصعب والمسلك الوعر وقررت أن تواجه الظلم والتقتيل والإبادة التي تدور رحاها بقطاع غزة وتنتفض ضد الداعمين للقتلة.
وقفت المهندسة ابتهال أبو سعد بكل شموخ أثناء كلمة المدير التنفيذي لقطاع الذكاء الاصطناعي في شركة مايكروسوفت مصطفى سليمان احتجاجًا على توفير الشركة معلومات لجيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه على فلسطين ولبنان، وذلك خلال احتفال الشركة بالذكرى الـ50 لتأسيسها.
لم تلتفت ابتهال إلى تبعات ما قامت به، ولم تأبه بالمضايقات التي قد تطاولها وقد تصل حد الفصل من العمل وهي تشتغل في شركة عملاقة هي حلم لكثيرين، لكنها فضلت المواقف على التمتع بامتيازات القرب من كبار مسؤولي الشركة ونعيمهم، كانت تستمع لضميرها الإنساني فقط.
ولم تأبه بأن دفاعها عن القضية الفلسطينية ورفضها للقتل والإبادة والتطهير العرقي سيجر عليها الويلات، ليس فقط الطرد، بل قد يصل إلى حد الملاحقة القانونية، واختارت الكلمة.. كلمة الحق.
قامت من مكانها بكل عزة نفس ومشت بخطوات واثقة وبجرأة وشجاعة، بقامتها الطويلة وكوفيتها الفلسطينية التي تحولت إلى رمز للنضال ضد الاحتلال، متحدية أي قرار قد يصدر عن الشركة، توجهت إلى المنصة وألقت كلامًا ثقيلًا “أنت تدعم الإبادة يا مصطفى”، ورمت الكوفية ملطخة بدماء الشهداء والمعطوبين والمهجرين.
كان مشهدًا أكثر تعقيدًا مما بدا عليه. مأساة أن تقف ابتهال العربية في وجه مصطفى العربي. كانا عربيين في النشاط نفسه، وكانا على طرفي النقيض كل في جهة.. داعم للإبادة ومناصر للقضية الفلسطينية. وهو ما أشعرنا بغصة ونوع من الخذلان.. خذلنا عرب مثلنا وقفوا إلى صف الاحتلال والقتل، وأخطأوا الموعد مع التاريخ، ولم يفهموا أن الأوطان تتشرذم وتقسم إذا لم نتوحد، فالبقاء دائمًا للأقوى.
هذا المشهد عرى واقعنا العربي الموغل في التفرقة والتنافر بين داعم للكيان وعملاء يتعاملون مع الاحتلال مقابل قروش زهيدة، ومناهض له وشرفاء وهبوا حياتهم دفاعًا عن أرضهم ومواقفهم، وكأن قدرنا ألا نتفق ولا نتوحد ولا تكون لنا كلمة واحدة لدعم المقاومة، وأنه محكوم علينا كعرب أن نعيش قبائل متناحرة، مشهد صغير لواقع مؤلم وكبير.. إنه واقع مأساوي ومفارقة موجعة.
انتصبت ابتهال بكل أنفة ونطقت بكلمات مزلزلة في وجه الشركة ومديرها وموظفيها، وبكلمات واضحة وصريحة ودون لف أو دوران صرخت: “توقفوا عن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإبادة الجماعية في منطقتنا، يداك ملطخة بالدماء، وأيدي مايكروسوفت كلها ملطخة بالدماء، كيف تجرؤون على الاحتفال بينما تساهم مايكروسوفت في قتل الأطفال؟ عار عليكم جميعًا”… كان صوتًا مقاومًا وقف في وجه تكنولوجيا تدعم قتل الأبرياء والعزل.
كانت كلماتها صرخات مدوية، بل كانت صوتنا جميعًا ضد الإبادة والقتل والتهجير والتمييز العنصري. كان مشهدًا بطوليًّا تحولت معه ابتهال أبو سعد إلى بطلة وأيقونة ورمز للمرأة العربية المناضلة والحرة الشريفة رفضت الظلم واستمعت لضميرها الإنساني.
كانت كلمات ابتهال كأزيز رصاص مسموع لدى الاحتلال وداعميه والتزام كبير بالقضية الفلسطينية وعدالتها، كانت لها رسالة عبرت عنها بشجاعة كبيرة في وجه الظلم والطغيان.
عار علينا جميعًا يا ابتهال هذا الصمت المخزي، وهنيئًا لك دخول صفحات التاريخ.
فالتاريخ علمنا أنه يحتفظ بسيرة الأبطال أصحاب المواقف المشرفة والمنيرة.
ولكن يا ابتهال، متى يفهم العرب أن مواجهة الغطرسة الأميركية، والتوحش الإسرائيلي، يمر عبر التكتل والتضامن والوحدة للحفاظ على سلامة أراضينا وسيادتها وكرامتها. سيكون مخجلًا إنكار الحقيقة التي لا يمكن إنكارها.. مهادنة إسرائيل انتحار مؤجل.
حسن قديم
مدير نشر موقع الميدان بريس