بنعيسى.. الديبلوماسي الذي حول أصيلة إلى منارة ثقافية

أصبحت مدينة أصيلة المغربية قبلة للمثقفين من كل بقاع المعمور ومنارة للتسامح وتلاقح الثقافات، منذ 1978 تاريخ الموسم الأول لمنتداها الثقافي الدولي، وذلك، بفضل ابنها البار، الديبلوماسي والمثقف محمد بنعيسى، الذي آثر إلا أن يحول “عروس البحر” إلى محج سنوي لكل شغوف بالثقافة.
بنعيسى الدبلوماسي الرحالة الذي عاش قلبه معلقا بمدينته، التي كانت بالنسبة إليه مثل بلسم يدواي غربته التي هزمها موليا الأدبار وعائدا للاستقرار بأصيلة التي اختار أن يختم حياته بها، كما بدأها طفلا.
لقد كان أسبوع توديع بنعيسى، بداية الشهر الحالي، إلى متواه الأخير ثقيل الوطأة على المدينة ومثقفيها ومحبيه وعلى كل من عرفه والتقاه. وعلى امتداد ذلك الأسبوع “الوداعي”، كانت التعزيات والمرثيات تحصي مناقب الراحل، في وداع شخصية آمنت بالثقافة كحل ومخرج لأزماتنا مجتمعاتنا العربية.
ومن الطبيعي أن تنهال على الرجل ومدينته كل هذه الإشادات، في نوع من الاعتراف بأن الثقافة هي الأمل وخيط النجاة للتخلص من التخلف ومن عصر الانحطاط الطويل، وموقظة الاحساس بالكرامة والعزة، ومنعشة الارادة والشعور بالقدرة على صنع المستحيل، في زمن الهزائم والخذلان.
لقد حول بنعيسى هذه المدينة الهادئة التي تنام على الأطلسي إلى وطن دافئ للمثقفين، إذ زارها كبار المثقفين أمثال الشاعر الفلسطيني محمود درويش والروائي السوداني الطيب صالح والشاعر العراقي بلند الحيدري والمفكر المغربي محمد عابد الجابري والقاص والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي والشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي، والرئيس الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور وغيرهم من الأسماء الكبيرة.
يقول الطيب صالح عن مدينة أصيلة » هذه المدينة السحرية تغلغلت في كياني. ولا شك أن الناس سيذكرون من بعد، عندما تنتهي رحلة الحياة أنني كنت أحد الذين ارتبطوا بها «ووفاء لمن زارها من المثقفين وشارك في منتداها حملت حدائق المدينة أسماء كبار رموز الثقافة العربية ، من حديقة محمود درويش إلى حديقة الطيب صالح وحديقة بنلد الحيدري وغيرهم.
غادر بنعيسى المغرب نحو مصر في سن السادسة عشر من عمره، ليعود إلى المملكة ويبدأ مساره المهني كصحافي، ثم واصل دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية، وتدرج في سلم الترقي المهني بفضل طموحه الجارف الذي أوصله إلى سفارة المغرب بواشنطن ثم وزيرا للخارجية، وقبلها وزير للثقافة.
وهكذا شغل بنعيسى منصب وزير الثقافة في الفترة ما بين 1985 و1992، ثم سفيرا للمغرب في الولايات المتحدة في الفترة (1993-1999)، ثم وزيراً للشؤون الخارجية (1999-2007، إضافة إلى عضوية البرلمان المغربي ورئاسة مجلس جماعة أصيلة لسنوات طوال.
ونظير مساره المتميز، حصل محمد بن عيسى على وسام العرش من درجة ضابط كبير عام 2008، وجائزة الشيخ زايد شخصية العام الثقافية في السنة نفسها، إضافة إلى جوائز أخرى، اعترافا بما قدمه للثقافة.
استطاع بنعيسى بشخصيته الفذة وابتسامته التي يوزعها على الجميع، حتى معارضيه ، من أن يجعل من أصيلة مدينة تحتضن حوار الثقافات والنقاش وتطرح المواضيع الصعبة والمتشابكة للنقاش، لقد جعلها نبراسا وسراجا منيرا في زمن التيه والابتعاد عن الثقافة، وفي زمن الخجل وبؤس العجز عن المشاركة الفعالة في بناء مجتمعات قارئة، خاصة وأننا في ذيل الإحصائيات القراءة.
ولم تقتصر أناقة بنعيسى على ملبسه ومظهره الخارجي، بل عكستها أيضا أناقة فكره وثقافته، فالسي بنعيسى كما يحلو لمحبيه مناداته، كان يتمز بسعة صدر كبيرة ويقبل الاختلاف والنقد الحاد والقاسي أحيانا، فاختلاف الموقف السياسي لا يفسد للود قضية بالنسبة للديبلوماسي الهادئ والمثقف.
بنا بنعيسى شخصية هادئة صقلها من خلال تجربة غنية وفريدة، وتجمعت فيها عصارة مسار طويل من السياسة والديبلوماسية والثقافة فزادته خبرة وحنكة وشعبية. جعل الناس يدركون أن الثقافة سلاح قوي ومدخل لبناء الوعي، وكان له الفضل الكبير في ذلك.
محمد بنعيسى هو التجسيد الحي لتمازج الثقافة والساسة، بل أن بنعيسى قد أعاد الاعتبار إلى الثقافة، من خلال تكريم رموزها روادها، وكان صديقا حميما لأصحاب القلم.
رحم الله السي بنعيسى، ومتى تؤمن هذه الامة أن الثقافة والقراءة الطريق الصحيح لجمع شتاتها والسبيل القويم لنهضتها؟
حسن قديم
مدير موقع الميدان بريس