هل الدين مسؤول عن تخلفنا فعلاً؟
كلما استمعتُ أو شاهدت مقابلة مع أدونيس وأمثاله ممن يسمون أنفسهم «تنويريين» تراهم يرددون نفس الأسطوانة، وهي أن العرب والمسلمين لا يمكن أن يتقدموا سياسياً وفكرياً وثقافياً وصناعياً وتكنولوجيا وعلمياً إلا إذا انفصلوا عن تاريخهم وتراثهم الديني. لا بد، برأيهم، من قطيعة مع الماضي ومع الدين تحديداً حتى ينطلق العرب والمسلمون إلى الحداثة ويلحقوا بركب العالم المتطور. وللبرهنة على نظرية «القطيعة» تلك، يستشهد (التنويريون) العرب بالتجربة الأوروبية، فلولا الانفصال عن الكنيسة لما حدث التقدم في الغرب على كل الأصعدة. وهذا صحيح ولا تتناطح فيه عنزتان، لكن هناك فرقاً شاسعاً بين الحالتين العربية والإسلامية من جهة والحالة الأوروبية القديمة من جهة أخرى، فالكنيسة الغربية كانت الحاكمة بأمرها في كل شيء قبل انبثاق عصر التنوير الذي قضى على الحكم الكنسي وحرر أوروبا من ربقة النظام الديني، فتطورت وازدهرت وسيطرت على العالم. أما في الحالة الإسلامية فإن عصور الازدهار سادت إبان الحكم الإسلامي، فكل الإنجازات العلمية التي حققها المسلمون جاءت أيام كان المسلمون يحكمون باسم الدين، ولا شك أن «التنويريين» العرب المزعومين يعلمون جيداً أن الغرب فيما بعد استفاد استفادة عظيمة من أفكار واكتشافات واختراعات العلماء المسلمين الذين وضعوا أسس العديد من العلوم والتكنولوجيا الحديثة قبل الأوربيين بمئات السنين.
وللتعرف على ذلك يكفي فقط الاطلاع على كتابات الباحث البريطاني بول فاليلي وإحداها بعنوان: «كيف غير المخترعون المسلمون وجه التاريخ؟». والسؤال الموجه للتنويرين العرب هنا: لماذا لم يقف الدين عائقاً أمام التطور الإسلامي في الماضي على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والعلمية؟ لماذا أبدع المسلمون في مجالات عدة تحت أنظمة إسلامية، بينما تقهقروا وتراجعوا عندما انهارت تلك الأنظمة؟ حتى الغزوات الإسلامية التي فتحت الشرق والغرب كانت تحت رايات دينية، وما إن تلاشت الفترة (الإسلامية) في تاريخ العرب والمسلمين حتى تحولوا إلى ملل ونحل ودويلات متناحرة، وصاروا لقمة سائغة للمستعمرين الأوروبيين وغيرهم؟ ومن دون الخوض في تفاصيل تاريخية، فإن هذه الحقيقة لا تحتاج إلى إيضاح ولا إلى جدل وأخذ ورد. فلماذا إذاً يصر التنويريون العرب المزعومون على ضرورة تجريد العرب والمسلمين من حضارتهم وموروثهم الديني بحجة اللحاق بالحضارة الحديثة؟ ولماذا يعزون اليوم كل الخراب والدمار والانهيار العربي إلى الدين وضرورة التخلي عنه؟
المشكلة في بعض العلمانجيين العرب أنهم ينتقدون الموروث الديني ويعتبرونه مسؤولاً عن التخلف العربي والإسلامي اليوم، بينما في الواقع لا يلعب الدين أي دور حقيقي فيما وصل العرب من انحطاط سياسي واقتصادي وعسكري. متى حكم الإسلاميون منذ الاستقلال المزعوم في العالم العربي مثلاً؟ أرجوكم لا تقولوا لنا إن الأنظمة الديكتاتورية التي ابتلينا بها منذ خروج المستعمر من بلادنا هي أنظمة إسلامية أو علمانية. معاذ الله، فهي أنظمة طاغوتية وليست علمانية ولا إسلامية مطلقاً، بل تتاجر بالعلمانية والدين والشعوب لصالح مشغليها في الخارج.
كل الأنظمة التي تحكم الشعوب العربية منذ رحيل المستعمر هي أنظمة عسكرية أو استبدادية أو عائلية لا علاقة لها بالدين مطلقاً، وإذا كانت تتدثر أحياناً بثوب ديني، فليس لأنها تحكم على أسس دينية، بل كي تستغل الدين لأغراض سياسية فقط.
وعندما تسمع الصراخ المتواصل ضد الدين والمتدينين منذ عقود تأخذ الانطباع أن الإسلاميين يحكموننا منذ مئة عام، بينما في الواقع لا يعرف الإسلاميون من السلطة إلا سجونها. وبالتالي كيف يتجرأ بعض العلمانجيين على اتهام الدين والمتدينين بأنهم المسؤولون عن حالة التخلف والانحطاط الذي وصلنا إليه اليوم؟ دلوني أين هي الأنظمة الإسلامية التي حكمت العرب منذ الاستقلال؟ لا يوجد، فالمؤسسات الدينية كانت منذ زمن بعيد مجرد أدوات في أيدي الطغاة والعسكر حتى هذه اللحظة، ومفتو السلاطين ليسوا سوى خدم للطواغيت الذين يستغلونهم لتخدير الشعوب وتبرير سياساتهم الإجرامية. أما العديد من الجماعات الإسلامية الجهادية فهي ليست أكثر من جماعات مرتزقة لدى الاستخبارات الدولية وسواها. وبالتالي فإن الدين لم يكن يوماً في محل رفع فاعل في العقود الماضية، بل في محل مفعول به. لماذا لا نسمع إلا اتهامات لهذه الجماعة الإسلامية أو تلك بأنها المسؤولة عن تدهور المجتمعات والشعوب في العقود الماضية؟ ألا يعلم التنويريون العرب المزعومون أن رجال الدين في العالم العربي لا يستطيعون أن يخطبوا بالناس في المساجد إلا بتعليمات وأوامر واضحة من أجهزة الأمن؟ ألا تصلهم خطب الجمعة مكتوبة من المخابرات؟ فكيف يكونون إذاً مسؤولين عن التخلف في بلادنا؟ رجاء لا يحدثني أحد عن آلاف المساجد في العالم العربي، فهذا ليس دليلاً على أن أنظمة الحكم إسلامية وتحكم باسم الدين، لا أبداً، بل هي تستغل الدين ورجال الدين فقط لأغراض سياسية بعيدة عن الدين بعد الشمس عن الأرض. ولا يمكن مطلقاً تشبيه نفوذ المسجد في العالم الإسلامي بنفوذ الكنيسة في العالم الغربي في العصور الوسطى.
واليوم يا ترى هل منع الدين ظهور علماء عرب ومسلمين ووصولهم إلى أعلى المراتب العلمية في الجامعات الغربية؟ أليس هناك اليوم آلاف العلماء والأطباء والخبراء والمخترعين المسلمين الملتزمين؟ هل وقف الدين عائقاً أمام ظهور طبيب مسلم من الطراز الأول؟ ألا تكون النسبة الأعلى من المتفوقين في المدارس والجامعات العربية والإسلامية من الملتزمين دينياً أحياناً؟ فكيف إذاً تصورون لنا الدين على أنه سبب التخلف في أوطاننا؟
وكي لا يظن البعض أنني هنا أطبل وأزمّر لما يسمى بالإسلام السياسي وأدعو إلى قيام أنظمة دينية، أقول: معاذ الله، فقد فشلت الحركات الإسلامجية فشلاً ذريعاً وساهمت في توطيد سلطة العسكر في بلدان عدة، خاصة عندما استخدمها بعض الجنرالات لأغراض سياسية كما فعل البشير في السودان مثلاً. ولا أعتقد أن أحداً يريد أن يطبق اليوم تجربة طالبان في بلده. ولا يمكن مطلقاً الدعوة إلى قيام أنظمة دينية كما يريدها الدواعش وأمثالهم، لأن الزمن تغير، وما كان صالحاً في العصور الغابرة لم يعد صالحاً لعالم اليوم بتعقيداته السياسية وتنوعه الرهيب. لا نختلف مع التنويرين في هذه النقطة أبداً، ولا نختلف أيضاً مع أفكار علي عبد الرازق في كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» التي مزجت بين الحداثة والأصالة وكانت قريبة جداً من العلمانية الحديثة، لكننا نختلف مع «العلمانجيين» في تحميل مسؤولية التخلف والانحطاط العربي والإسلامي حصراً للثقافة الدينية دون غيرها، مع أن المسؤول الأول والأخير أشهر من نار على علم وهي الديكتاتورية وليس الدين، فلماذا أيها التنويريون المزعومون تضربون البردعة وتتركون الحمار؟
فيصل القاسم/ نقلا عن القدس العربي