بين القضاء والصحافة: حين يتحدث الرميد عن “أخلاقيات الخصومة”

بقلم: د. عبد الإله طلوع – كاتب رأي

في تدوينة جديدة، اختار الأستاذ المصطفى الرميد، الوزير السابق والحقوقي البارز، أن يخوض في العلاقة الشائكة بين السياسي والصحفي، مبديًا مواقف تستحق التوقف والتفاعل، ليس فقط لوجاهة منطقها القانوني، بل لأن التوقيت والسياق السياسيين يمنحان لكلماته طابعًا يتجاوز التنظير، إلى ما يشبه الرسائل المضمرة.

لقد أكد الرميد أن الصحفي ليس خصمًا طبيعيًا للسياسي، بل قد يكون حليفًا له في ترسيخ قيم الرقابة والتخليق، لكن حين تميل الممارسة إلى الكيد أو الافتراء، فالقانون – حسب قوله – يظل هو الحكم الفيصل، بهذا المنطق، يدعو الرميد إلى التمييز بين النقد المشروع، والتشهير المؤذي، بين الصرامة المهنية، والعدمية الأخلاقية.

وهنا، لا يمكن للقارئ المدقق إلا أن يطرح بعض الأسئلة الجوهرية:
هل فعلاً يلجأ المسؤول السياسي إلى القضاء دفاعًا عن الكرامة أم رغبة في الردع؟
هل يخشى السياسي الحقيقة التي تفضح عجزه، أم يسعى لتأطيرها قانونيا خشية الفوضى؟

ثم، أي التزام يُنتظر من الصحفي حين تكون الأخبار متداخلة بين الحقيقة والتأويل؟

في مقاربته، يبدو الرميد متشبثًا بمنطق “توازن المسؤوليات”: السياسي مسؤول عن تدبيره، والصحفي مسؤول عن أخباره، هذا صحيح من الناحية النظرية، لكنه لا يحجب اختلالات واقعية يعرفها المشهد المغربي، حيث يندر أن نرى سياسيًا يحاسب فعليًا على فشله، أو صحفيًا يُنصف حين يكشف فسادًا موثقًا.

ومن حقنا أن نتساءل:
لماذا لا يستقيل المسؤول إذا لم يلجأ إلى القضاء وهو متهم بالفساد؟
ولماذا يُحاكم الصحفي أحيانًا بالقانون الجنائي بدل قانون الصحافة والنشر؟
وهل فعلاً نعيش في ظل ضمانات مؤسساتية تجعل “الحق في الاعتذار” بديلًا محترمًا للتقاضي؟

في المغرب، كما في تجارب انتقالية كثيرة، لم تكتمل بعد شروط التوازن بين حرية الصحافة وحماية السمعة، فالتدوينة تنطلق من افتراض مثالي لمعادلة الحقوق والواجبات، لكنها تتجاهل ـ عن قصد أو عن حسن نية ـ أن القوانين تُستعمل أحيانًا كأدوات سياسية، وأن القضاء ليس دومًا بمنأى عن التأثيرات.

بل إن بعض القضايا التي تم فيها اللجوء إلى القضاء ضد صحفيين أو فاعلين رقميين، لم يكن الهدف فيها “استجلاء الحقيقة”، بل إسكات الصوت المزعج.
وهذا ما يُضعف منطق الرميد حين يتحدث عن “القضاء كآلية تخليق”، في الوقت الذي يشهد فيه الرأي العام أن الصحافة تُرهب أحيانًا باسم القانون، لا تُقوَّم به.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن دعوة الرميد إلى تخليق الممارسة الإعلامية والسياسية تبقى موجهة، لا للخصوم وحدهم، بل أيضًا لرفاق دربه، ولكل من يعتبر السياسة غنيمة، أو الصحافة قنصًا.

إننا بحاجة إلى لحظة اعتراف متبادلة:
– الصحافة تحتاج إلى صرامة مهنية تُنقّيها من الشعبوية والابتزاز،
– والسياسة تحتاج إلى شجاعة أدبية تحوّل الشفافية من شعار إلى ممارسة.

أما القضاء، فيجب أن يكون ضامنًا للعدالة، لا طرفًا في لعبة توازنات سياسية وإعلامية مضطربة.

فهل نملك في مغرب اليوم هذا الترف من النزاهة المتبادلة؟

ربما أراد الرميد أن يوقظ هذه الأسئلة، وربما آن الأوان أن نطرحها بجرأة، لأن “أخلاقيات الخصومة”، كما سماها، لا تعني فقط أن نكون مهذبين ونحن نختلف، بل أن نكون صادقين في محاسبة الذات قبل الخصم.

مقالات ذات صلة