طلوع يكتب.. المدرسة الرائدة… بوابة خلفية نحو الخوصصة المقنّعة للتعليم العمومي

حين أُطلقت تجربة “المدرسة الرائدة” ضمن رؤية إصلاحية معلنة، كان الخطاب الرسمي يحتفي بـ”الابتكار التربوي”، وبـ”إعادة الثقة في المدرسة العمومية”، بل واعتبر الأمر تحولًا نوعيًا في تمكين المؤسسات من قدر أكبر من المبادرة والجودة.
لكن شيئًا ما في هذا الخطاب بدا، ومنذ الوهلة الأولى، محمّلاً بالتباسات دلالية ومفارقات وظيفية تستوجب التمحيص:
هل نحن أمام إصلاح حقيقي، أم أمام بوابة خلفية لخوصصة ناعمة تُمرَّر تحت يافطة الجودة؟
لقد جرى التسويق لـ “المدرسة الرائدة” بوصفها تجربة نموذجية تُراهن على الانفتاح والفعالية والتميز، غير أن ما لم يُقَل صراحةً، هو أن هذه المدرسة لا تتشابه مع بقية المدارس العمومية، لا في مواردها، ولا في شروطها، ولا حتى في منطق اشتغالها.
فهذه المؤسسات تُدار بمعايير أقرب إلى القطاع الخاص منها إلى منطق المرفق العمومي:
مدير بسلطة موسعة، مجالس تدبير مالية نشيطة، “شركاء ممولون”، أساتذة يخضعون لتتبع صارم، وموارد إضافية مشروطة بالكفاءة والنتائج.
هل هذا تطور إيجابي؟ ربما.
لكن السؤال الأعمق هو: من سيدفع ثمن هذا التميز؟
وهل يجوز أن يكون التميز على حساب وحدة المدرسة العمومية، وعدالة الولوج، وتكافؤ الفرص؟
إن ما يُخشى اليوم، ليس فقط التمايز بين المدارس، بل تحويل هذا التمايز إلى سياسة عمومية مقصودة، تُعيد صياغة المدرسة كمجال تنافسي، لا كمجال للعدالة الاجتماعية، وهنا تكمن الخطورة: فحين تُربط الميزانية بالجودة، والموارد بالنتائج، والدعم بالانفتاح على “الشركاء”، فإننا لا نُحرر المدرسة… بل نُعِدُّها للبيع التدريجي تحت شعار “الحكامة”.
فأي معنى تبقى للمدرسة العمومية حين تصبح مُطالَبة بالبحث عن تمويلها الخاص؟
هل ما يجري هو تطوير للقطاع العام، أم تمهيد لتفكيكه؟
وهل يستطيع مدير مدرسة في حي شعبي أو قروي أن ينافس مدير مؤسسة في حي راقٍ ضمن شروط “الريادة” التي تضع الجميع على خط انطلاق غير متكافئ؟
إن الإشكال الأخلاقي والسياسي هنا لا يتعلق بالريادة في حد ذاتها، بل بكون هذه “الريادة” تحوّلت إلى ذريعة تُخفي انسحاب الدولة من تمويل المدرسة بشكل كلي أو جزئي، وتسليمها، بشكل تدريجي، إلى منطق السوق، والمقارنة، والتنافس، بدل منطق الحق والتكافؤ والتضامن المجالي والاجتماعي.
ولعل من أبرز مؤشرات هذا التحول:
فتح الباب أمام “الشراكات” مع مقاولات خاصة ومؤسسات تمويلية خارجية، مما يطرح سؤال التأثير الخفي لهؤلاء على مضمون المدرسة.
الترويج لثقافة “التمويل الذاتي”، وكأن المدرسة أصبحت ملزمة بأن تُدبّر نفسها بنفسها، تمامًا كالمقاولة.
التصنيف المؤسساتي داخل التعليم العمومي نفسه: مدارس “رائدة” تستفيد من دعم وإمكانات، مقابل مؤسسات “تقليدية” تفتقر لأبسط الوسائل.
فأي عدالة تعليمية يمكن أن تُبنى على هذا التفاضل؟
وهل ننتقل من خوصصة التعليم الخصوصي إلى خوصصة داخل التعليم العمومي نفسه؟
الأخطر من ذلك أن المشروع يُمرَّر بهدوء، دون نقاش عمومي واسع، ودون مساءلة حقيقية للمضمرات السياسية لهذا التوجه. وكأن تراجع الدولة عن تمويل التعليم صار قدرًا لا رجعة فيه، وكأن المواطن بات عليه أن يختار بين “المدرسة المميزة بثمن”، أو “المدرسة المهمّشة بالمجان”.
ومع ذلك، لم يكن المجتمع المغربي يومًا صامتًا أمام تهديد المدرسة العمومية، فقد عبّر المربون، والنقابيون، والأساتذة، ومكونات من المجتمع المدني، عن رفضهم الصريح لتفكيك المدرسة باسم الإصلاح، ونبّهوا إلى أن التمايز المقصود سيخلق طبقيات تربوية عميقة، تهدد وحدة النسيج المجتمعي ومستقبل التعايش الوطني.
لذا، يحق لنا أن نعيد طرح الأسئلة التي يحاول البعض الهروب منها:
من يصوغ القرار التربوي اليوم في المغرب: الوزارة أم السوق؟
هل مشروع “المدرسة الرائدة” مدخل تكتيكي لتجريب الخوصصة قبل تعميمها؟
هل المدرسة التي لا تجلب التمويل تُعتبر فاشلة؟
وهل نحن في طريقنا إلى صناعة مدرسة عمومية بمواصفات خصوصية؟
إننا نحتاج إلى إصلاح تربوي حقيقي، لكننا نرفض أن يتم ذلك على أنقاض المدرسة العمومية، أو على حساب أبنائنا من الفقراء ومتوسطي الدخل، أو عبر تقديم المدرسة كمنتوج لا كحق.
لأن المدرسة ليست سلعة.
ولأن خوصصتها، سواء أكانت علنية أو مقنّعة، ليست إصلاحاً… بل انسحاباً ناعماً من الواجب الوطني.
بقلم: الدكتور عبدالإله طلوع
باحث في القانون العام والعلوم السياسية