التعليم الأولي مشروع طموح يعرف تعثرات في التنزيل الميداني

بقلم: يوسف القاضي
يُعد ورش تعميم التعليم الأولي في المغرب من الأوراش الكبرى التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس، في أفق بناء منظومة تربوية عادلة ومنصفة تُوفر لكل أطفال المغرب، وخاصة أبناء الفئات الهشة، فرصًا متكافئة للانطلاق في مسار تعليمي سليم وواعد. ورش ملكي طموح، أراد له الملك محمد السادس نصره الله، أن يكون قاطرة لنهضة تربوية حقيقية، تبدأ من الأساس، وتبني الإنسان منذ سنواته الأولى، رغبة في جلالته في الاستثمار المبكر في الطفولة، التي تعتبر النواة الاولى للعنصر البشري، الذي قال عنه صاحب الجلالة في خطابه السامي بمناسبة عيد الشباب لسنة 2014: ” إن الثروة الحقيقية التي يتوفر عليها المغرب هي العنصر البشري”.
غير أن هذا الطموح الوطني الكبير يصطدم – للأسف – بمجموعة من العراقيل التقنية والميدانية التي تهدد بنسف أهدافه النبيلة، إذا لم تُتخذ التدابير التصحيحية المناسبة، بحيث نُسجل، ضمن هذه العراقيل: ضعف التخطيط المجالي لتوزيع وحدات التعليم الأولي، إذ يتم أحيانًا إحداثها في مناطق لا تعرف أي نمو ديمغرافي يُذكر، مما يجعلها بدون جدوى فعلية، في حين تُترك مناطق أخرى ذات كثافة سكانية عالية تعاني من الاكتظاظ والخصاص في البنيات التحتية. وهذا اختلال في التوزيع _ الذي يرجع أساسا لأهداف سياسية بين المنتخبين.._ يطرح علامات استفهام حول آليات اتخاذ القرار وتحديد الأولويات.
كما أن توقيت التمدرس الحالي لا يراعي الخصوصية النفسية والعمرية لهؤلاء الأطفال، الذين لا تتجاوز أعمارهم أربع أو خمس سنوات. فتركهم لساعات طويلة داخل فضاءات محدودة، ودون أنشطة محفزة في فضاءات شاسعة وأرحب، يُفقدهم الحماس، وقد يُحوّل التجربة المدرسية إلى عبء.
ولذك؛ من الأفضل – تربويًا – اعتماد توقيت مرن: ساعتان إلى ثلاث صباحًا، ومثلها مساءً، يتخللها تنشيط وترفيه مناسب.
وتزداد المعاناة في العالم القروي والمناطق النائية، حيث غياب النقل المدرسي يُعتبر عائقًا بنيويًا حقيقيًا، خاصة في بعض المناطق التي تعرف تفرق منازل الساكنة، وبعد المسافة بينها وبين الوحدة.. فكيف يمكن لأطفال صغار أن يقطعوا كيلومترات مشيًا للوصول إلى الوحدة؟ من الواجب توفير خدمة نقل مدرسية مؤمنة وآمنة، تُضمن بها الاستمرارية في التمدرس وتحترم طفولة هؤلاء الصغار.
ولا بأس من التفكير في منحة مالية رمزية موجهة لأسر الأطفال المستفيدين، لتغطية مصاريف النقل أو بعض الحاجيات التربوية الأساسية، في انسجام مع فلسفة الدعم الاجتماعي التي اعتمدتها المملكة في برامج أخرى (تيسير، دعم الأرامل، ثم الدعم الاجتماعي حاليا…).
وعند الحديث عن التعليم الأولي، لا يمكن تجاهل الاختلال المؤسساتي الصارخ المرتبط بوضعية الموارد البشرية. فمن غير المعقول أن تكون لدينا وزارة للتربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، في حين يشتغل المربون والمربيات تحت لواء جمعيات مدنية، في ظروف عمل هشة، ودون استقرار وظيفي أو مسار مهني واضح، مع ما يصاحب ذلك من استغلال لهؤلاء الموارد البشربة.. هذا التناقض يضرب في العمق مصداقية الورش وفعاليته. لذلك، المطلب العادل والمستعجل هو إدماج هؤلاء العاملين في سلك الوظيفة العمومية تحت وصاية الوزارة الوصية، أسوة بزملائهم في باقي الأسلاك التعليمية، في اطار هيكلة القطاع، مع التفكير في شروط صارمة لولوج هذه الوظيفة، وفق تكوين أكاديمي معين، وليس فتح الباب لولوج القطاع من باب الزابونية والموالاة واشياء أخرى لا علاقة لها بما هو تربوي..
إن ورش التعليم الأولي لا ينبغي أن يُختزل في بناء وحدات أو إعداد تقارير ورقية، بل هو مشروع حضاري متكامل، مرتبط بالامن الفكري لابناءنا، ومستقبل الأمة..لذا يتطلب عدالة مجالية، تخطيطًا دقيقًا، دعمًا اجتماعيا، ورؤية مؤسساتية واضحة في تدبير الموارد البشرية.
فقط بهذا النفس الشمولي، يمكن تحويل الطموح الملكي إلى واقع ملموس يَصنع الفرق في حياة أطفال المغرب، ويضع البلاد على سكة تنمية مستدامة تبدأ من أولى سنوات العمر.