حين يصبح الغضب منتوجاً: تسليع التمرّد في زمن الفراغ

 

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

لم يكن الغضب يومًا ترفًا، بل فعلًا إنسانيًا عميقًا يعكس وعياً بالظلم، وتمرداً على الرداءة، ورغبة أصيلة في التغيير. الغضب، حين يكون صادقًا، هو لحظة إدراك للخلل، ورفض للواقع كما هو، واستدعاء للممكن كما يجب أن يكون، لكن ماذا يحدث حين يُفصل الغضب عن جذوره؟ حين يُنزَع منه المعنى، ويُعاد تدويره ليُصبح سلعةً تُباع وتُشترى؟
هنا تمامًا، تبدأ عملية تسليع التمرّد… حيث يتحوّل الغضب من أداة للتحرر إلى عرض تسويقي، من طاقة للتحويل إلى فرجة استهلاكية.

في مجتمعاتنا اليوم، وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم المعولم، نشهد صعود “نماذج تمرد” لا تمسّ جوهر الأشياء، بل تُعيد إنتاج التفاهة تحت مظهر الغضب، شخصيات تقتحم المنصات الفنية والشاشات الرقمية، تصرخ، تسب، تلوّح بحركات صادمة، تُنزل اللغة إلى أدنى مستوياتها… لكن لا تغيّر شيئًا، ولا تهدد نظامًا، ولا تقترح بديلًا.
هنا لا نتحدث عن شخص أو حالة بعينها، بل عن ظاهرة ثقافية واجتماعية مركبة، تشكّل أحد أبرز تجليات الفراغ الرمزي، والانهيار القيمي، والإفلاس السياسي والفني معًا.

لقد استطاع السوق – بعبقريته الباردة – أن يُفرغ التمرّد من مضمونه التحرري، ويحوّله إلى “منتوج شبابي” قابل للاستهلاك. كيف؟ عبر تحويل مشاعر الغضب الطبيعية لدى الشباب إلى أداء مسرحي قابل للعرض والمشاركة والمونتاج، يتم تسويقه تحت عناوين مثل “حرية التعبير” أو “فن الشارع”، لكنه لا يُزعج أحداً، لأنه ببساطة لا يقول شيئاً ذا قيمة.

إنّ المنصات التي يعلو فيها هذا الضجيج ليست منصات فنية بالمعنى التاريخي للكلمة، بل هي منصات للإفراغ النفسي، لا تعبير عن موقف، بل استهلاك لحظة، لحظة مؤقتة تنتهي مع نهاية الأغنية، أو المقطع المصوّر، أو الحفل، لتعود الحياة إلى رتابتها، ويعود الواقع إلى قسوته، دون أن يتغير شيء.

هذا الشكل من “التمرد الخالي من المعنى” ليس عفويًا، إنه جزء من منظومة أوسع تُدير المجال الثقافي والاجتماعي بمنطق السوق:
– كل ما يثير الانتباه يُسوَّق.
– كل ما يُشعل التفاعل يُدعَّم.
– وكل ما لا يهدد المنظومة يُرفع إلى أعلى المراتب.

أما التمرد الحقيقي – ذلك الذي يرتكز على فكر وموقف وبديل – فهو مهدَّد بالإقصاء، لأن السوق لا يحتمل الأفكار المعقّدة، ولا الرسائل التي تزعج السائد، ولهذا، نجد أنفسنا في لحظة سوسيولوجية غريبة: كلما كان المحتوى أفرغ، كان صداه أعلى، وكلما كان الفنان “أقل عمقًا”، حظي بدعم أكبر.

لقد تحوّل الفنان الغاضب من “صوت الضمير الجماعي” إلى موظف غير معلن في شركة ترفيه ضخمة، هدفها إلهاء الناس، لا إيقاظهم، وهنا يكمن التهديد الحقيقي: أن تصبح التفاهة أكثر قبولًا من المعنى، وأن يصير “الغاضب الاستعراضي” بديلاً عن “المفكر النقدي”، وأن يُستبدل الأمل الجماعي بلحظة هستيرية من التصفيق والرقص.

وإذا كانت المنظومة الرسمية تفتح الأبواب أمام هذا النوع من “التمرد الآمن”، فذلك لأنها تدرك أن الغضب الاستعراضي لا يهدد استقرارها، بل يُفرغ طاقات الشباب في قنوات فارغة، لا تؤدي إلى الشارع، ولا إلى السياسة، ولا إلى الثقافة، بل فقط إلى مزيد من “المحتوى”… والمزيد من الاستهلاك.

أما النخبة، فقد تخلّت عن دورها التاريخي. النخبة التي كانت تصوغ خطاب التغيير، وتدافع عن الفن الهادف، وتُنتج المعنى… انسحبت بهدوء، أو تواطأت بالصمت، أو ذابت في منطق السوق. لم تعد تملك الجرأة على قول “لا”، ولا تملك البدائل لتقول “نعم”.
وفي ظل هذا الفراغ، صعدت شخصيات لا مشروع لها، لا لأنها أقنعت، بل لأنها الوحيدة التي كانت تصرخ.

نحن هنا أمام مفارقة قاتلة: كلما انخفض المستوى الرمزي للخطاب، زادت شعبيته، وكلما ابتعد الفنان عن السياسة والالتزام، اقترب من النجومية، أصبحنا نعيش في عالم يُقاس فيه النجاح بعدد “اللايكات”، لا بحجم التأثير، وبعدد “المشاهدات”، لا بعمق الفكرة.

ووسط هذا الصخب، تُهمّش المدرسة العمومية، ويُقتل الحس النقدي، وتُهدم الرموز الفنية والفكرية، ويُعاد تشكيل وعي الشباب بلغة السوق، لا بلغة الوطن، تُنسى قضاياهم الحقيقية: البطالة، الهجرة، التهميش، فقدان الأفق… ويُعوَّض كل ذلك بلحنٍ صاخب وعبارات مثيرة.

لكن يبقى السؤال الكبير: هل هذا هو الغضب الذي نحتاجه؟
هل نريد تمرّدًا يفرّغ الألم دون أن يغيّر الواقع؟
هل نقبل أن يتحوّل صوت الجيل إلى مجرد إعلان موسيقي، أو عرض تجاري؟

لقد آن الأوان لأن نعيد الاعتبار للمعنى، وأن نستثمر في الثقافة كرافعة للتحرر لا كأداة للهروب، أن نربي جيلاً يرى في الفن أداة للوعي لا للمراوغة، أن نطالب بسياسات ثقافية تعيد للفن أدواره التربوية والرمزية، وتدعم المبدعين الحقيقيين بدل نسخ “التمرد المزيف”.

فالغضب الحقيقي لا يباع، ولا يُستعرض، بل يُوجّه.
والفن الأصيل لا يصفّق له الجمهور فقط، بل يوقظه.
والجيل الذي يُراد له أن ينسى، من حقه أن يعرف، وأن يختار، وأن يصنع مستقبله بعيداً عن العروض التجارية التي تستهلك وعيه دون أن تمنحه شيئاً.

مقالات ذات صلة