طلوع يكتب: الموقف الشخصي ليس رأيًا علميًا… الفرق الذي يغيّب الحقيقة

بقلم: طلوع عبدالإله – باحث في القانون العام والعلوم السياسية
حين تندلع حرب أو أزمة دولية، كما هو الشأن مع التوترات بين إيران وإسرائيل، أو النزاع الروسي الأوكراني، أو حتى العدوان المتكرر على غزة، سرعان ما تنقسم الجماهير إلى معسكرين: أحدهما ينخرط عاطفياً، والآخر يدّعي التحليل، لكن قلّما يميز الناس بين الموقف الشخصي – الذي ينبع من مشاعر، انتماءات، خلفيات دينية أو قومية – وبين الرأي التحليلي الذي يُفترض فيه أن يكون ثمرة فحص عقلاني، يرتكز على أدوات منهجية، وفهم للسياقات، واستقراء للمصالح والرهانات.
هذا الخلط ليس تفصيلاً بسيطًا، بل هو أحد الأسباب العميقة للتضليل الجماعي والانقسام الثقافي والسياسي، إذ حين يتحول الموقف الشخصي إلى معيار للحقيقة، يصبح أي تحليل لا يُساير العاطفة العامة خيانة، أو جبنًا، أو تواطؤًا.
وتصبح المعرفة سلعة مشبوهة، إن لم تواكب الموجة، وتُصفّق للقبيلة.
الموقف الشخصي لا يُلام، فهو تعبير عن هوية، عن حس أخلاقي، عن شعور بالمظلومية أو التعاطف، لكنه لا يصنع فهمًا موضوعيًا، من يتضامن مع شعب معين لأنه “يشبهه” دينيًا أو قوميًا، ليس مخطئًا أخلاقيًا، لكنه ليس محللًا سياسيًا أيضًا فالتحليل يتطلب “المسافة النقدية”، لا من أجل الحياد الفارغ، بل من أجل الإدراك العميق للواقع كما هو، لا كما نتمناه.
خذ مثلاً الحرب بين إيران وإسرائيل، فلا يمكن قراءتها فقط من زاوية من هو “الشرير” ومن هو “الضحية”، بل يجب أن تُقرأ من زوايا متعددة: الجغرافيا السياسية، توازنات القوى، الرهانات الإقليمية، خلفيات الصراع، وأدوار الفاعلين الدوليين.
هل من مصلحة أمريكا اندلاع حرب مفتوحة؟ كيف تستخدم إسرائيل “العدو الإيراني” كورقة لإعادة بناء اصطفافات إقليمية؟ وهل تمثل إيران حقاً مشروع مقاومة إقليمي أم أنها توظف خطاب المقاومة لأغراض إمبراطورية؟
كل هذه الأسئلة لا تطرح في الفضاء العام المُشبع بالصراخ. لأن الصوت العالي لا يحتمل التعقيد، ولأن الجمهور يريد إجابات بسيطة، لا تحليلات مزعجة.
ما يزيد تعقيد الأمر أن الإعلام، وخاصة الإعلام الرقمي، يُغذّي هذا التبسيط المضلل، إذ يُكافأ من “ينحاز”، لا من “يفهم”، ويُرفع من يكرر الخطاب الشائع، لا من يشكك فيه، وهكذا، يتحول الفاعل السياسي إلى مؤثر رقمي، والمحلل إلى مؤدلج، والجهل إلى شكل من أشكال البطولة الجماهيرية.
نحن هنا لا ندعو إلى البرودة السياسية أو إلى اللاانتماء، بل ندعو إلى التمييز بين المستويين: لك أن تتبنى موقفًا إنسانيًا واضحًا، لكن لا تُقدمه على أنه تحليل محايد، لأنك إن فعلت، فقد ساهمت في تغليف الذات بالعلم، وهو أخطر أشكال الأيديولوجيا الخفية.
في زمن ما بعد الحقيقة، حيث تختلط الأخبار بالتحريض، والتضامن بالتحشيد، والانتماء بالتفسير، أصبح التفكير النقدي ضرورة وجودية، لا ترفًا ثقافيًا، لأن الكوارث تبدأ حين يتحول الموقف الشخصي إلى مرآة نرى فيها العالم بأكمله، فنسقط في فخ التبسيط… ونخسر الحقيقة.