الضوء لا ينطفئ في مدريد

قبل حوالي أسبوعين، عمّ الظّلام في إسبانيا، بسبب سكتة مكهربة أتت على كامل شبكات الضوء. لكنّ ضوء خفيّا ظلّ مشتعلا في مدريد. هناك يوجد الرجل الذي يحمل مشعلا لا ينطفئ.
لذلك أرى كمهاجر، أنه من واجبي دائما أن أبحث عن نقاط الضوء، وسط الظلام اليميني الذي لا يفوت فرصة سواء في الحكومات الإقليمية، أو في البرلمان الأوروبي، لإلقاء اللوم على المهاجرين حتى أن بعضهم يكاد يقول حين يتأخر الثلج في السقوط، وحين ترتفع درجات الحرارة بشكل مفاجئ في بدايات الربيع، أن السبب واضح وهو راجع لكثافة المهاجرين، لكنّ سانشيز رغم ما عليه، فإنني سمعته يقول في برلمان مدريد: نحن نريد إسبانيا للجميع.
أعتقد أن هذا الرجل، حتى وإن كانت خطاباته نابعة عن حسابات إجتماعية وتاريخية وإقتصادية معروفة، فإن قلبه يشتعل ضوءً، يشتعل إنسانية في الوقت الذي تكاد تنعدم فيه الإنسانية لدى بعض رؤساء الدول في عصرنا الحالي، إنه واحد من أولئك الذين قالوا في زمن الظلام اليميني لا للعنصرية، لا لإبادة الأطفال…
بعيدا عن مدريد…
في قلبي أيضا أضواء لن تنطفئ حتى أستلقي تحت التراب، أضواء لم تطفئها كآبة الغربة، أضواء لم تطفئها الخيبات التي عشتها في السنين الأخيرة من عمري، أضواء لم تطفئها الخسارات والإنكسارات العظمى التي عصفت بقلبي.
البارحة مساء، كنت في مقهى Parisien، قالت النادلة التي تشكل لحم جسدها الأبيض خلف الفستان الأخضر المشقوق عند منحدر صدرها، وهي تقوم بإشعال شمعة وتهم بتثبيتها فوق مائدة يجلس خلفها شاب يكاد يشبه نابوليون بونابارت قبل الغزوات الشهيرة. يا له من ظلام، كل شيء صار مظلما. ثم رد عليها الشاب بضحكة مجلجلة. وعالجها مازحا: إلاّ الحبّ…
قالت النادلة، ساخرة: تستحق الشفقة، يا له من فخ.
جعلني هذا الحوار العفوي، أتساءل بيني وبين نفسي: هل الوقوع في الحبّ فخّ؟ لا أظّن ذلك.
لقد تعلمت مع مرور التجارب، أن الوقوع في الحبّ قد يكون فخّا، لكنه ليس كذلك دائما. ثمة أشخاص يمكن أن نقع في حبهم من المرة الأولى، وكأننا نعرفهم قبل عشرات السنين، دون أن نعرف السبب. إنه سحر خاص.
هناك أشخاص في الحياة، تصادفهم وتحبهم دون قيد أو شرط، أشخاص يجعلونك تشعر أنك منهم وأنهم منك، أشخاص مهما باعد الزمن بينك وبينهم سوف تظل تحبهم، أشخاص مهما باعدت الثقافات بينك وبينهم سوف تظل تكن لهم نفس الحب، أشخاص مهما عقدت المسافات اللقاء بينك وبينهم فسوف تظل تحبهم، أشخاص حين يقع إسمهم على عقلك ورددت عبارة بوكوفسكي الشهيرة: الحب كلب من الجحيم. فسوف تظل تحبهم.
أخيرا، لقد عاد الضوء في مدريد. في نفس اليوم الذي انطفئ فيه. أما في حياتي الضبابية،بلا كلمات السكارى، أعترف أنك علمتني بشكل ما أن أرى بقعة الضوء، وها أنا الآن أمضي وأكتشف من خلالها نفسي منذ اليوم الذي عرفتك فيه.
يوسف البارودي