الديمقراطية التشاركية بإقليم تازة.. غياب الإرادة وتشتت الفعل المدني يفرغانها من مضمونها

الدستور يضمن.. والممارسة تغيب: أزمة المشاركة المواطنة بإقليم تازة

على الرغم من مرور أكثر من عقد على دسترة آليات الديمقراطية التشاركية في المغرب، يظل تفعيلها على المستوى الترابي بإقليم تازة محدودا إلى حد مثير للقلق. هذا ما كشفه منذ زهاء 9 أشهر، لقاء تشاوري نظم بمدينة تازة من طرف مجلس الإقليم وهيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، بتعاون مع حركة بدائل مواطنة، ضمن برنامج “النهوض بقدرة الفعل للمجتمع المدني بالمغرب من أجل الحكامة والبيئة والمناخ”.

أهمية الديمقراطية التشاركية

يشكل تفعيل مقتضيات الفصل 139 من دستور المملكة المغربية، ولا سيما تلك المتعلقة بالآليات التشاركية للحوار والتشاور، رافعة أساسية لترسيخ أسس الديمقراطية التشاركية على المستوى الترابي. وتنبع أهمية هذه الآليات من تعدد أبعادها، إذ يتجلى البعد الآني في تحسين الاستجابة للحاجيات الفعلية للساكنة والفاعلين المحليين، وتعزيز قنوات التواصل بين المواطنين والمنتخبين ومكونات المجتمع المدني. أما على المدى المتوسط، فإنها تمثل مجالا للتعلم الجماعي في تدبير الشأن المحلي، وفرصة لتكوين وتجديد النخب في إطار ما يمكن اعتباره “مدرسة الديمقراطية التشاركية”. بالإضافة إلى ذلك، تشكل الديمقراطية التشاركية أداة فعالة في تنمية الوعي المجتمعي وتعزيز ثقافة المشاركة، من خلال ضمان الشفافية وتدفق المعلومة الصحيحة إلى المواطنين، مما يحد من فرص التضليل أو شراء الأصوات، ويضعف آليات الإفساد الانتخابي، بما يرسخ نزاهة العملية الديمقراطية ويعزز الثقة في المؤسسات.

على المستوى الاستراتيجي، كما يؤكد العديد من المفكرين، ومنهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، فإن الديمقراطية التشاركية تمثل أداة فعالة لمواجهة التهديدات التي تفرضها الليبرالية المتوحشة، والتي تعمل على تقويض أسس الدولة الاجتماعية من خلال خوصصة الخدمات العامة، وتهميش دور الدولة في حماية الفئات الهشة، وتركيز السلطة الاقتصادية في أيدي النخب المالية.
في هذا الإطار، يرى هابرماس في مؤلفه “بين الحقائق والمعايير”( (Between Facts and Norms, 1992 أن الديمقراطية لا يمكن أن تقتصر على التصويت الدوري والتمثيل البرلماني، بل يجب أن تقوم على تداول عقلاني وحوار مفتوح بين المواطنين، بما يسمح بتكوين إرادة جماعية واعية ومنفتحة. ومن هذا المنطلق، فإن الديمقراطية التشاركية تعزز من قدرة المجتمعات على مقاومة تغول رأس المال، وإعادة التوازن بين متطلبات السوق وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
كما أن إشراك المواطنين في صناعة القرار يضفي شرعية أكبر على السياسات العامة، ويعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، الأمر الذي أصبح ملحا في ظل تنامي الفجوة بين الحاكم والمحكوم، واتساع رقعة الإقصاء والتهميش الناتجة عن السياسات النيوليبرالية.
حصيلة وآفاق تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية بإقليم تازة

تداول المشاركات والمشاركون في لقاء للتشاور والاستماع والمساءلة حول المشاركة المواطنة، الذي نظمه مجلس إقليم تازة وهيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع لدى مجلس الإقليم، بتعاون مع حركة بدائل مواطنة، يوم 18 أكتوبر 2024 بمدينة تازة في إطار تنفيذ برنامج “النهوض بقدرة الفعل للمجتمع المدني بالمغرب من أجل الحكامة والبيئة والمناخ”، حصيلة تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية على مستوى إقليم تازة.

خلصت المناقشات في هذا اللقاء، الذي جمع أزيد من ثلاثين فاعلة وفاعلا، من بينهم ممثلون عن مجلس الإقليم ومجالس سبع جماعات ترابية، إلى جانب ممثلين عن هيئات المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، وفاعلات وفاعلين جمعويين من الجماعات نفسها، إلى أن حصيلة تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية على مستوى إقليم تازة ما تزال ضعيفة جدا، إذ لم تتجاوز إنجاز ثلاثة آراء استشارية صادرة عن هيئات المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، بمختلف جماعات الإقليم، مع غياب تام لتقديم أي عريضة ترابية او وطنية أو ملتمس.

بالنظر إلى الأهمية البالغة التي أولاها كل من المشرع الدستوري والمشرع العادي للمشاركة المواطنة وآلياتها، يظل السؤال هنا مطروحا: هل يكمن سبب هذا الضعف في ممارسات المنتخبين المحليين، أم في حدود أدوار سلطة المراقبة، أم في قصور أداء المجتمع المدني؟

يرجع ضعف تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية بإقليم تازة إلى تداخل العوامل الثلاثة التي سبق ذكرها، وليس إلى عامل واحد فقط. يمكن تفصيلها كالآتي:

  • على مستوى ممارسات المنتخبين المحليين

يمكن حصر تأثير عناصر هذا المستوى فيما يلي:

  • ضعف الإرادة السياسية: بعض المجالس ترى في الآليات التشاركية تهديدا لسلطتها أو لتدبيرها الانفرادي.
  • التعامل الشكلي: تنظيم لقاءات تشاورية فقط لتلبية متطلبات القانون، دون منحها مضمونا حقيقيا أو مخرجات مؤثرة في القرار. تتجلى هذه الحالة خاصة فيما يفرضه المرسوم المتعلق بتحديد مسطرة إعداد برنامج عمل الجماعة وتتبعه وتحيينه وتقييمه وآليات الحوار والتشاور لإعداده، من ضرورة إشراك هيئة المساواة وتكافئ الفرص ومقاربة النوع في مرحلة التشخيص. لذلك تضطر الجماعات الى تكوين الهيئة وعقد اجتماع او اجتماعين معها لتبرير المشاركة ولتجاوز إمكانية رفض التأشير على برنامج عمل الجماعة. ثم بعد ذلك ينتهي أمر هذه الهيئة.
  • ضعف التكوين: محدودية إلمام عدد من المنتخبين بالمقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة لهذه الآليات (الفصل 139 من الدستور، القوانين التنظيمية للجماعات…).
  • تحيزات سياسية أو فئوية: تفضيل جمعيات أو فعاليات بعينها على حساب أخرى، ما يفرغ المشاركة من شموليتها.
  • على مستوى أدوار سلطة المراقبة

أما فيما يخص مستوى أدوار السلطة، فيمكن حصر الخلل في العناصر التالية:

  • اقتصار المراقبة على الجانب الشكلي: التثبت من استيفاء الإجراءات القانونية دون التحقق من جودة المشاركة أو جدوى المخرجات.
  • غياب مبادرات دعم وتأطير: ضعف التوجيه والمواكبة من طرف السلطات لمساعدة الجماعات على تطوير آليات ناجعة للتشاور.
  • تردد في التدخل: أحيانا تتفادى السلطات الإدارية التدخل في شؤون الجماعات حتى في حالات الإقصاء الواضح لآليات التشاور، تفاديا لاتهامها بالتدخل السياسي.
  • على مستوى أداء المجتمع المدني

فيما يرجع لمستوى أداء المجتمع المدني، تتمثل العناصر الأساسية في النقاط التالية:

  • قصور في المعرفة القانونية: الكثير من الجمعيات غير مطلعة جيدا على شروط وكيفية تفعيل حقها في تقديم العرائض والملتمسات والمشاركة في إعداد وتتبع السياسات العمومية المحلية.
  • ضعف القدرات التنظيمية: محدودية الموارد البشرية والمالية لتأهيل الأعضاء ولممارسة مشاركة فعالة.
  • تشتت الفعل المدني: غياب التنسيق بين الجمعيات، مما يضعف قوة تأثيرها وترافعها.
  • اتخاذ موقف انتظاري، لا مبادر: رغم أن الإطار القانوني يخول للمجتمع المدني حق المبادرة، إلا أن معظم الجمعيات تتخذ موقفا انتظاريا، فلا تنخرط بفعالية في مجالات المشاركة الديمقراطية (الفعل والفعالية من داخل الهيئات التشاورية، تقديم العرائض الترابية والوطنية والملتمسات…)، أو في اقتراح المشاريع أو تتبع وتقييم السياسات العمومية، إلا عندما تتلقى دعوة أو طلبا من مجالس الجماعات الترابية.
  • نحو إصلاح متوازن

لا يمكن حصر الخلل في جهة واحدة، بل هو نتاج تفاعل إرادة سياسية محدودة، ومراقبة غير فعالة، ومجتمع مدني ضعيف القدرات. لا بد لأي إصلاح حقيقي من معالجة متوازية لهذه المحاور الثلاثة من خلال:

  • تكوين وتحسيس المنتخبين بأهمية المشاركة المواطنة.
  • تفعيل أدوار سلطات المراقبة في المواكبة والتقييم النوعي.
  • تحويل توصيات مفتشية الإدارة الترابية بخصوص تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية من وثائق إدارية إلى أدوات فعلية لتحسين المشاركة المواطنة.
  • إرساء منصات رقمية للتشاور مع الساكنة.
  • ضمان انتظام لقاءات الاستماع والتشاور.
  • تبسيط المساطر أمام الجمعيات والمواطنين للمشاركة.
  • إعداد دلائل مبسطة توضح حقوق وواجبات المشاركين.
  • بناء قدرات المجتمع المدني على المبادرة والتأثير.

خلاصة القول يبدو أنه، من دون إصلاح متواز لهذه الأبعاد الثلاثة، ستظل الديمقراطية التشاركية في تازة عنوانا جميلا بلا مضمون، وإطارا قانونيا بلا روح.

بقلم عبدالله بولرباح، فاعل جمعوي

مقالات ذات صلة