الأزمي يكتب: ترخيص رئيس الحكومة لوزير الصحة بالمسطرة التفاوضية..تضييع للوقت واستغلال بشع للظروف للتحلل من القانون!

خلال اليومين الأخيرين، تم تداول رسالة وجَّهها بتاريخ 13 أكتوبر 2025 رئيس الحكومة إلى وزير الصحة والحماية الاجتماعية جواباً على مُلتمس وَجَّهَهُ له هذا الأخير بتاريخ 07 أكتوبر 2025 يَطلُبُ فيه الترخيص باللجوء إلى المسطرة التفاوضية من أجل إنجاز صفقات عمومية في قطاع الصحة.
وقد جاء في جواب رئيس الحكومة ما يلي: “وبعد، فقد التمستم، بواسطة رسالتكم ذات المرجع أعلاه، الترخيص في اللجوء إلى المسطرة التفاوضية من أجل إنجاز صفقات عمومية تتعلق بتأهيل وإصلاح وترميم المنشآت التقنية والمؤسسات الاستشفائية التي تعرف وضعية متدهورة وحرجة من حيث البنايات والتجهيزات والمنشآت التقنية.
فجوابا عن ذلك، واعتبارا للحيثيات الواردة في رسالتكم، لاسيما منها حالة المراكز والمؤسسات الاستشفائية الموجودة بجهات المملكة، ونظرا لحالة الاستعجال القصوى التي يكتسيها إنجاز هذه المشاريع، فإنني أبلغكم الموافقة على ملتمسكم، والترخيص بصفة استثنائية لمصالح وزارتكم، في إطار مسطرة الإشراف المنتدب على المشروع بالنسبة للمؤسسات العمومية والأشخاص الاعتبارية المنصوص عليها ضمن مقتضيات المادة 154 من المرسوم رقم 2.22.431 المتعلق بالصفقات العمومية، في اللجوء إلى المسطرة التفاوضية من أجل تأهيل المراكز والمؤسسات الاستشفائية الواردة أسمائها في الوثيقة المرفقة برسالتكم السالف ذكرها، والتي أوجه نسخة منها ومن هذه الرسالة إلى السيد الوزير المنتدب لدى وزيرة الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية، والسيد الخازن العام للمملكة.”
ومُساهمة في النقاش العمومي حول هذا الموضوع وفي ظلِّ الجدل الكبير الذي أثاره ترخيص رئيس الحكومة في السياق السياسي الراهن لوزيره في الصحة بإبرام صفقات عبر المسطرة التفاوضية، وبالنظر للأحكام الدستورية والقانونية ذات الصلة بالحكامة الجيدة، وللمقتضيات القانونية والتنظيمية المؤطرة لمساطر إبرام الصفقات العمومية، يهدف هذا المقال إلى إبراز التساؤلات والإشكاليات التي يثيرها هذا الترخيص.
وهُنا وبالإضافة إلى كون جواب رئيس الحكومة، وكما سنُبَيِّنُ لاحقاً، يتجاوز بشكل كبير المقتضيات القانونية والتنظيمية التي تُؤَطِّر بدقة وبشروط صارمة حالات اللجوء إلى المسطرة التفاوضية، والتي تجعل من إبرام الصفقة التفاوضية متوقف وجودا وعدما على توفر هذه الحالات كما ينص عليها المرسوم المنظم للصفقات العمومية، وذلك باعتبارها مسطرة استثنائية لا يتم اللجوء إليها إِلاَّ في حالات استثنائية وبمبررات قانونية محددة وحصرية، فإن ترخيص رئيس الحكومة يثير إشكالا سياسيا كبيرا وخطيرا، ويطرح سؤالا جوهريا حول مدى وعي رئيس الحكومة ووزيره في الصحة بالذي يجري وبالسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن؟ لأنهم بلجوئهم لهذه المسطرة الاستثنائية يتجنبون الشفافية والإشهار والمنافسة، ويكرسون بذلك وبشكل بشع وضدا على القانون ممارسات هذه الحكومة المطبوعة بتضارب المصالح واستغلال النفوذ وانتهاز كل فرصة وكل ظرف لإعمال المساطر الاستثنائية والتحلل من المقتضيات القانونية التي تُلزمهم بالشفافية والمنافسة التي قررها القانون لتفسح المجال أمام جميع المتنافسين دون استثناء أو محاباة.
إِنَّ ترخيص رئيس الحكومة -بالجملة- لوزيره في الصحة باللجوء إلى المسطرة التفاوضية في عشرات الصفقات العمومية، وبالإضافة لكونه خطأً سياسياًّ باعتباره لا يُبَالي بالسياق الحالي بل ويشكل استفزازا غير محسوبٍ للرأي العام وتحديا له، فإنه يتضمن أيضا العديد من التجاوزات القانونية، إذ لا تتضمن هذه الرسالة أي تأسيس أو إحالات قانونية دقيقة لهذا الترخيص، حيث لم تُحِل على المواد القانونية التي تخول لرئيس الحكومة اختصاص البت في هذا الترخيص، ولا على المواد القانونية والمعطيات الواقعية التي اعتمد عليها لتبرير هذا الترخيص، إلا ما يستشف من استعماله لصيغة: “ونظرا لحالة الاستعجال القصوى التي يكتسيها إنجاز هذه المشاريع”، وكذا إحالته على المادة 154 من المرسوم رقم 2.22.431 المتعلق بالصفقات العمومية في موضوع آخر وهو الإشراف المنتدب على المشروع.
فبخصوص سؤال الاختصاص، وبالعودة إلى المرسوم المتعلق بالصفقات العمومية، ولاسيما الفرع الثالث منه المتعلق بالمسطرة التفاوضية والذي يحدد من المادة 87 إلى المادة 90 مبادئ وحالات اللجوء وأشكال الصفقات التفاوضية، لا نجد أي اختصاص لرئيس الحكومة في منح هذا الترخيص. حيث إن المادة 89 من هذا المرسوم التي تحدد حالات اللجوء إلى هذه المسطرة نصت على الحالة الوحيدة التي يجب فيها الحصول على ترخيص مسبق من لدن رئيس الحكومة للجوء إلى صفقات تفاوضية بدون إشهار مسبق وبدون إجراء منافسة، وهي الصفقات المتعلقة بالأعمال التي تتطلب ضرورات الدفاع الوطني أو الأمن العام أن تظل سرية كما نصت على ذلك الفقرة 2) من البند II) من هذه المادة. وباستثناء هذه الحالة الخاصة، فإنه في باقي الحالات الأخرى، تنص الفقرة 5) من المادة 87 على أن صاحب المشروع، أي في هذه الحالة وزير الصحة، وليس رئيس الحكومة، هو الذي يجب عليه قبل اللجوء إلى إبرام صفقة تفاوضية، أي عند كل صفقة تفاوضية وليس في إطار ترخيص بالجملة، أن يُعِدَّ شهادة إدارية تبين الاستثناء الذي يبرر إبرام الصفقة بطريقة تفاوضية، وتبين على وجه الخصوص، مبررات اللجوء إلى هذه المسطرة.
هذا من حيث سؤال الاختصاص والذي لا ندري على أي سند قانوني اعتمد عليه رئيس الحكومة ليستجيب لملتمس قدَّمه له وزيره في الصحة ويرخص له بالمسطرة التفاوضية في هذه الحالة؟ أما من حيث مبررات الترخيص باللجوء إلى المسطرة التفاوضية وهي المسألة الأساسية والجوهرية، فهل كان رئيس الحكومة ووزيره في الصحة مُحِقِّين في اعتماد مبرر “حالة الاستعجال القصوى” للجوء إلى هذه المسطرة أم لا؟
وهنا، لابد من الإشارة أولا إلى أن اختيار عبارة ومبرر “حالة الاستعجال القصوى” من طرف رئيس الحكومة ووزيره في الصحة لم يأت اعتباطا، بل استعملاه ليفسحا لأنفسهما المجال ليس فقط لاعتماد المسطرة التفاوضية لإبرام هذه الصفقات، بل لاعتماد شكل خاص واستثنائي وهو المسطرة التفاوضية بدون إشهار مسبق وبدون إجراء منافسة، وذلك دون الإشارة إلى هذا التدقيق المهم في رسالة رئيس الحكومة.
وهنا وبالعودة إلى نفس المرسوم، نجد أنه استعمل صيغة “حالة الاستعجال القصوى” مرة واحدة وهي تلك الواردة في الفقرة 6) من البند II) من المادة 89 التي تحدد حالات اللجوء إلى الصفقات التفاوضية، والتي نصت على أنه يمكن أن تكون موضوع صفقات تفاوضية بدون إشهار مسبق وبدون إجراء منافسة الصفقات المتعلقة ب”الأعمال التي يجب إنجازها في حالة الاستعجال القصوى والناجمة عن ظروف غير متوقعة بالنسبة إلى صاحب المشروع وغير ناتجة عن عمل صادر عنه والتي لا يتلاءم إنجازها مع الآجال التي يستلزمها القيام بإشهار مسبق وإجراء منافسة”.
وبالنظر لهذه المقتضيات الواضحة، فكيف يُفَسِّر رئيس الحكومة ووزيره في الصحة الظروف غير المتوقعة بالنسبة لهما وغير الناتجة عن عمل صادر عنهما…، وقد تعهدا في البرنامج الحكومي أن هذ القطاع يشكل أولوية كبرى ووفرت له قوانين المالية المتتالية الاعتمادات المالية اللازمة والكبيرة؟ وبالتالي لا توجد أي ظروف غير متوقعة بالنسبة لهما وغير ناتجة عن عمل صارد عنهما، اللهم ما يتعلق بالتقصير في المسؤولية من طرفهما. وعليه، فلا مبرر نهائيا للمسطرة التفاوضية حيث إنهما كانا يتوفران على الوقت الكافي وبرمجا عن علم وبَيِّنَة بحالة هذه المنشآت الاعتمادات المالية والكافية لتأهيلها وصيانتها وهو ما لم يقوما به في الوقت المخصص لذلك وأرادا أن يستدركا تأخرهما اليوم عبر مسطرة لا يتيحها القانون نهائيا لمثل هذه الحالات.
كما أن نفس المادة تضيف شروطا أخرى وتوضح أكثر حالة الاستعجال القصوى حيث تنص على أنه “يهدف موضوع هذه الأعمال، على وجه الخصوص، إلى مواجهة خصاص أو حدث كارثي مثل الزلازل أو الفيضانات أو المد البحري أو الجفاف أو الوباء أو الجائحة أو وباء حيواني أو أمراض نباتية مدمرة أو اجتياح الجراد أو الحرائق أو البنايات والمساكن المتداعية والمنشآت المهددة بالانهيار أو حدث يهدد أمن الشبكات والمنشآت أو يهدد صحة المستهلك أو الثروة الحيوانية أو الطبيعية”. وبالنظر أيضا لهذه المقتضيات وللشروط الإضافية التي تفرضها هذه المادة للجوء إلى المسطرة التفاوضية، لا يوجد بتاتا أي مبرر من هذه المادة ينطبق على هذه الصفقات ويدخل في خانة الأعمال المراد تنفيذها في إطار إنجاز عشرات الصفقات العمومية التي تتعلق بتأهيل وإصلاح وترميم البنايات والتجهيزات والمنشآت التقنية بالمؤسسات الاستشفائية.
ثم تضيف نفس المادة شرطا إضافيا وأخيرا وهو أنه: “ويجب أن تقتصر الصفقات المتعلقة بهذه الأعمال حصريا على الحاجات الضرورية لمواجهة حالة الاستعجال”. فكيف يمكن لهذه الصفقات التي تعد بالعشرات وتهم كل جهات المملكة وتهدف إلى تأهيل وإصلاح وترميم و…أن تقتصر حصريا على الحاجات الضرورية لمواجهة حالة الاستعجال؟ مع العلم أنه لا توجد أصلا حالة الاستعجال كما حددتها الفقرة السابقة.
ومن جهة أخرى، ومع ما سبق توضيحه من كون هذا الترخيص لا يوجد له أساس في المرسوم المنظم للصفقات العمومية لا من حيث اختصاص رئيس الحكومة ولا من حيث مبررات الترخيص، فإن إحالة رئيس الحكومة على المادة 154 من نفس المرسوم وترخيصه في موضوع آخر باللجوء إلى الإشراف المنتدب على المشروع يثير ملاحظتين جوهرتين وأساسيتين.
الملاحظة الأولى بخصوص الصيغة القانونية لهذا الترخيص والذي يتطلب مُقَرَّراً لرئيس الحكومة يتخذه بعد تأشيرة الوزير المكلف بالمالية، وليس مراسلة عادية كتلك التي بعثها رئيس الحكومة لوزير الصحة. ثم الملاحظة الثانية من حيث موضوعه، حيث ينصب الإشراف المنتدب على المشروع وفق نفس المادة، حصريا، على صفقات الأشغال والدراسات المتعلقة بها، وهو ما يتجاوزه بشكل كبير موضوع هذه الصفقات التي هي صفقات تتعلق بتأهيل وإصلاح وترميم البنايات بالمؤسسات الاستشفائية، لكن تتعلق أيضا بالتجهيزات والمنشآت التقنية بهذه المؤسسات.
وخلاصة الكلام، هو أن رئيس الحكومة رخَّص بالمسطرة التفاوضية في مجال لا يدخل في مجال اختصاصه أصلا، كما أنه رخص بالإشراف المنتدب على المشروع دون احترام الصيغة القانونية المطلوبة لهذا الترخيص ولموضوع الإشراف المنتدب، كما أنه ووزيره في الصحة استعملا مقتضيات وتبريرات لا يمكن أن تُطَبَّقَ نهائيا في حالة الصفقات موضوع هذا الترخيص، ورخصا لها بالجملة في حين أنه ينبغي توفر الشروط التنظيمية لكل حالة وصفقة على حدة. وهما بذلك إنما تعسَّفا بشكل كبير في استغلال الظروف الحالية ليوحيا بأنهما إنما يستجيبان بشكل مستعجل للمطالب والاحتجاجات الموجهة ضد قطاع الصحة، لكن المقصود في الحقيقة هو التحلُّل من المقتضيات القانونية التي تفرض الإشهار المسبق والمنافسة الواسعة لإبرام مثل هذه الصفقات، وهذا ليس غريبا على هذه الحكومة التي أصبحت موصومة بتضارب المصالح، وبالتشريع وبالدعم المالي العمومي لذوي القربى، كما حدث في صفقات وملفات سابقة أصبحت معلومة لدى الجميع.
لذا، واحتراما للقانون، ومراعاة للرأي العام، وحفاظا على النظام العام الاقتصادي والمالي، واستجابة للمطالب الشعبية بإعمال الحكامة الجيدة ومحاربة الفساد وضمان شروط المنافسة الشريفة في الولوج إلى الصفقات العمومية، على رئيس الحكومة ووزيره في الصحة أن يبادرا بالتراجع عن هذا الترخيص غير القانوني شكلا ومضمونا، وإن كنت على يقين أن من وجهت لهم الرسالة التي يرخص من خلالها وبالجملة رئيس الحكومة باللجوء إلى الصفقات التفاوضية، وهم المطالبون والمعروفون بالتزامهم بالقوانين ذات الصلة بالمالية والمحاسبة والصفقات العمومية، وحرصهم على التأكد من احترام القواعد القانونية والتنظيمية المتعلقة بالالتزام بالنفقات العمومية عبر مراقبة شرعية ومشروعية الصفقات قبل الالتزام بها، ومن ضمنها التأكد من احترام مقتضيات مرسوم الصفقات العمومية من حيث الإعلان والمنافسة، وكذا التحقق من أن المسطرة التي اختيرت لإبرام الصفقة استُعملت في إطارها ووفق مبرراتها القانونية والتنظيمية، لن يسمحوا بأن تمرر في سابقة من نوعها عشرات الصفقات في قطاع معين وبمئات ملايين الدراهم عبر المسطرة التفاوضية ودون إشهار ودون منافسة.
كما أنه ورِبْحاً للوقت وما دامت هذه المسطرة التفاوضية لن تجيزها الأجهزة الإدارية المختصة، فما على رئيس الحكومة ووزيره في الصحة إلا المبادرة وبسرعة إلى إعمال المساطر العادية لإبرام هذه الصفقات دون انتظار أو مزيد من تضييع الوقت عبر إعمال الشفافية والمنافسة لفسح المجال أمام جميع المتنافسين الذي يستجيبون للمعايير المطلوبة والذي يتوفرون على المراجع المهنية والضمانات والمؤهلات القانونية والتقنية والمالية للمشاركة في الصفقات العمومية والتنافس عليها، عوض اعتماد مساطر استثنائية ومغلقة تثار حولها الكثير من الشبهات والشكوك لكونها لو استعملت لن يستفيد منها إلا من سَيَعْلَمون أو يُعْلَمون مُسْبَقاً بها.