مشروع قانون المالية 2026… حين يتحول الرقم إلى رؤية للدولة الاجتماعية

بقلم الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
لم يعد النقاش حول مشروع قانون المالية لسنة 2026 نقاشاً تقنياً يخص الأرقام والاعتمادات، بل أصبح نقاشاً حول فلسفة الدولة واتجاهها الاستراتيجي في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب، ذلك أن الوثيقة المالية الجديدة لا تقدم فقط معطيات محاسباتية، بل تترجم رؤية سياسية وتنموية تتوخى الانتقال من التدبير المالي إلى بناء الدولة الاجتماعية، كما أرادها جلالة الملك محمد السادس في خطاباته الأخيرة.
لقد صار واضحاً أن الدولة تسعى إلى ترسيخ مفهوم “المغرب الصاعد”، أي المغرب الذي يوازن بين الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والمجالية.
فالمشروع المالي الجديد لا يكتفي بتدبير العجز والتحكم في التضخم، بل يطرح أسئلة جوهرية من قبيل: كيف نبني تنمية دامجة بين الجهات؟ وكيف نجعل من العدالة المجالية مدخلاً للاستثمار في الإنسان؟
إن تخصيص غلاف مالي يقارب 140 مليار درهم لقطاعي التعليم والصحة ليس مجرد قرار مالي، بل إعلان عن تحول عميق في تصور الدولة لوظيفتها. فالدولة لم تعد ترى في المواطن عبئاً اجتماعياً، بل رأسمالاً بشرياً يجب الاستثمار فيه. وهذا التحول من الإنفاق إلى البناء، من الدعم إلى التمكين، هو ما يمنح مشروع قانون المالية بعده المجتمعي الحقيقي.
لكن، رغم هذا الطموح، يظل السؤال مطروحاً: هل ستتمكن الإدارة العمومية من ترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع؟ فالإصلاح المالي مهما كان جريئاً، يظل ناقصاً ما لم يواكبه إصلاح إداري ومؤسساتي يضمن النجاعة والشفافية والمحاسبة. فالرهان اليوم لم يعد على الموارد فقط، بل على قدرة التدبير العمومي على تحويل السياسات إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن في حياته اليومية.
أما في جانب الاستثمار، فإن المشروع يؤكد على دور القطاع الخاص كقاطرة للنمو، مع تدابير لدعم المقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة، وتحفيز الاستثمارات في مجالات الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر، غير أن السؤال الأهم هو: هل يمكن أن يتحقق هذا الطموح دون إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمقاولة؟ فالثقة بينهما هي الشرط الأول لنجاح أي سياسة استثمارية مستدامة.
إن مشروع قانون المالية 2026 يشكل في جوهره محاولة لإعادة ترتيب أولويات الدولة، ووضع المواطن في قلب السياسات العمومية، فهو ليس ميزانية سنة مالية، بل خريطة طريق لمغرب جديد يوازن بين الطموح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ومع ذلك، يظل المستقبل مرهوناً بمدى قدرة الفاعلين العموميين على الانتقال من لغة الأرقام إلى منطق النتائج، ومن منطق التبرير إلى منطق التغيير.
فإذا كانت الأرقام تُقاس في خانة الميزانية، فإن العدالة والمواطنة تُقاسان في خانة الأثر المجتمعي. ومن هنا، فإن النجاح الحقيقي لمشروع قانون المالية لا يُقاس بحجم الاعتمادات، بل بمدى قدرته على إعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، وعلى جعل التنمية مشروعاً إنسانياً قبل أن يكون رقمياً.
إن “المغرب الصاعد” الذي تتحدث عنه الدولة ليس مجرد شعار سياسي، بل تصور حضاري جديد قوامه العدالة، والمواطنة، والاستثمار في الإنسان.
ولعل التحدي الأكبر اليوم ليس في صياغة القوانين، بل في قدرتنا الجماعية على جعلها تعيش بين الناس، وتخدم حياتهم، وتعيد لهم الإيمان بأن الإصلاح ممكن، وأن المستقبل في متناول الإرادة الوطنية.