من “البيصارة الدبلوماسية” إلى أزمة السياسة: حين يتحول العبث إلى منهج في التدبير

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

لم تعد السياسة في مغرب اليوم تُمارَس بمنطق الفكرة ولا بعمق الالتزام الأخلاقي، بل غدت في كثير من مظاهرها حالة من التهريج المؤسساتي، يتداخل فيها الجد بالهزل، والتمثيل بالواقع، حتى لم يعد المواطن يميّز بين السياسي والساخر، ولا بين الخطاب الوطني والعبثي.

في إحدى الندوات، خرج علينا أحد البرلمانيين، المعروف باسم الحاج السيمو، وهو يروي بفخرٍ أنّ “سفير الباراغواي تناول معه طبق البيصارة في بيته، وقبل أن يغادر قال له: الصحراء مغربية”. هكذا ببساطة! وكأن الدبلوماسية المغربية أضحت تُدار على مائدة الفول، لا في ردهات القرار والمؤسسات الرسمية.
قد تبدو القصة طريفة، لكنها في العمق رمز فادح لاختزال الشأن العام في العبث، ولتفشي منطق التسطيح داخل الحياة السياسية المغربية.

لقد كانت السياسة، في زمن مضى، فضاءً للفكر والنقاش والمشاريع المجتمعية. كان السياسي يستمد قيمته من قوة أفكاره، لا من حجم حضوره الإعلامي. أما اليوم، فقد تحوّل المشهد الحزبي إلى فضاءٍ للاستهلاك اللحظي، حيث تُمارس السياسة بمنطق التسويق لا بمنطق الإقناع، وتُدار الحملات الانتخابية بالابتسامات السريعة والوعود السطحية، لا بالبرامج والرؤى.

فأي دلالة تبقى للممارسة الحزبية حين تُختزل في الولائم والمناسبات؟
وأي معنى للديمقراطية التمثيلية إن كان ممثلو الأمة لا يجيدون سوى الارتجال والمزايدة؟
ثم أي أفق يُمكن أن ننتظره من أحزابٍ لم تعد تُكوّن الأطر ولا تُنتج النخب، بل تكتفي بإعادة تدوير نفس الوجوه التي أنهكها الزمن السياسي؟

إن أزمة السياسة في المغرب لم تعد أزمة مؤسسات فقط، بل أزمة ثقافة ووعي ومخيال جماعي. حين يُصبح البرلماني موضوع سخرية أكثر مما هو موضوع ثقة، فذلك يعني أن صورة السياسة في وجدان الناس قد انكسرت، وأن الرأسمال الرمزي للنخبة السياسية أصبح في الحضيض.

لا يمكن أن نُحدث تحولًا ديمقراطيًا حقيقيًا ما لم نُراجع وظيفة الأحزاب: هل هي مدارس لتأطير المواطنين وبناء الوعي، أم دكاكين انتخابية تُفتح موسمًا وتُغلق آخر؟
وهل ما زال بيننا من يؤمن بأن العمل السياسي رسالة، لا مجرد وسيلة للترقي الاجتماعي أو للبحث عن المناصب؟

إن ما نعيشه اليوم هو تآكل بطيء للسياسة كقيمة نبيلة. فحين يُقاس النجاح السياسي بعدد المتابعين في “اللايف” لا بعدد المبادرات التشريعية، وحين تتحول النكتة إلى رأسمال انتخابي، فإننا نكون قد دخلنا زمن “البيصارة الدبلوماسية”، زمن تختلط فيه الرمزية بالسخرية، والجد بالهزل، والوطن بالفرجة.

ومع ذلك، لا تزال هناك فسحة أمل: فجيل جديد من الشباب، المتنورين والواعين، بدأ يسائل الواقع ويسعى إلى إعادة الاعتبار للسياسة كمجال للعقل والإصلاح، لا كمنصة للتهريج.
فهل نستطيع أن نستعيد المعنى المفقود؟
وهل يمكن أن نعيد للسياسة بعضًا من هيبتها التي ضاعت بين المائدة والمنصة؟

ربما يكون الجواب في تربية سياسية جديدة، تعيد ربط الفعل السياسي بالأخلاق، والنقاش بالمصلحة العامة، والمواطنة بالفعل لا بالشعار.

حينها فقط، سنتمكن من القول إننا تجاوزنا زمن “الحاج السيمو” و”دبلوماسية البيصارة”، ودخلنا زمن الجدية في بناء الوطن.

مقالات ذات صلة