احتجاجات “جيل زد” في ميزان حسن أوريد

يتميز حسن أوريد، في كل كتاباته ومقالاته، بقدرة تحليلية رصينة وعمق فكري واضح، يعكسان تكوينه الأكاديمي المتين وتجربته المتعددة في دواليب الدولة المغربية. فقد جمع أوريد بين النظرية والممارسة، إذ خبر دواليب الحكم من الداخل واشتغل في مناصب سامية قبل أن يكرس نفسه للبحث والكتابة، كما راكم تجربة أكاديمية غنية في مجالات الفكر السياسي والتاريخ والثقافة، وهو ما منحه قدرة نادرة على تفكيك بنية السلطة والسياسة في المغرب من الداخل، دون السقوط في خطاب المعارضة الشعبوي أو التبرير الرسمي.
في مقال له بعنوان: “لماذا غضب جيل زد في المغرب؟”، يقدم المفكر حسن أوريد قراءة تحليلية عميقة للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعيشها المغرب، مستعرضا خلفيات الغضب الذي عبر عنه “جيل زد” أو جيل الثورة الرقمية، الذي تتراوح أعمار أفراده بين 13 و28 سنة.
يرى الناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا أن احتجاجات “جيل زد” أو جيل الثورة الرقمية لم تكن حدثاً عابراً، بل نتيجة تراكم طويل من الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية، تجلت في ضعف الخدمات العمومية، واتساع الفوارق الطبقية والمجالية، وازدياد شعور الشباب بالتهميش الذي تفاقم مع الزمن، ليكشف عن هوة عميقة بين مغربين: “مغرب الواجهة البراقة” و”مغرب الواقع اليومي الصعب”، وهي ثنائية تشكّل مفتاحا لفهم البنية العميقة للدولة والمجتمع المغربيين.
يشير الكاتب إلى أن الوضع الاجتماعي المتأزم تجلى في سلسلة من الأحداث المأساوية، كمسيرات العطش في الأطلس، ووفاة نساء أثناء الوضع، ونقص الأطباء في المناطق الجبلية. هذه الوقائع أطلقت شرارة الغضب الشعبي الذي عبّر عنه “جيل زد” في مظاهرات عمت مدن المملكة وقراها في نهاية سبتمبر 2025. ويبرز أوريد في هذا السياق أن طريقة تعاطي السلطة مع هذه الاحتجاجات مرت بثلاث مراحل: المنع أولا، ثم الاحتواء في مرحلة ثانية، قبل أن تعرف المرحلة الثالثة انفلاتا وأعمال تخريب، أعقبها لاحقا عودة إلى السلمية وتنظيم أفضل للاحتجاج.
ويؤكد الكاتب، انطلاقا من معرفته العميقة بخطاب السلطة وصناعة القرار، أن المسألة الاجتماعية كانت دوما حاضرة في خطاب الدولة، لكن السياسات العمومية لم تنجح في معالجة مظاهر الفقر والهشاشة التي تفاقمت بفعل عوامل جائحة وكوفيد (كورونا)، وتداعيات الحرب الأوكرانية والتضخم الذي أعقبها، والجفاف. وقد عبر الملك محمد السادس في خطابه الأخير عن إدراكه لهذه الفجوة حين تحدث عن “مغرب يسير بسرعتين”.
ويعتبر أوريد أن هذا التناقض بين مغربين، والذي فضحته الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، هو ما يغذي الغضب الاجتماعي المتفاقم ويهدد التوازن الداخلي للمجتمع.
من زاوية تحليلية دقيقة، يبرز أوريد أن “جيل زد” غير قواعد اللعبة، إذ يتمتع بقدرات رقمية عالية ويستعمل أدوات تنظيم حديثة، مثل منصة “ديسكورد”، كما يتبنى اللغة الإنجليزية بديلا عن الفرنسية، مما يعكس تحولا في البنية اللغوية والرمزية للنخبة الجديدة. وفي المقابل، تعيش السياسة المغربية أزمة عميقة، حيث تحولت الأحزاب السياسية إلى ماكينات انتخابية فاقدة للروح تجري وراء الأصوات، وأصبح الاستوزار لا يرتبط برصيد سياسي أو معرفة ميدانية بالقطاعات من قبل المرشحين للوزارة، وغابت ساحات النقاش الحقيقي، سواء داخل المؤسسات أو في الإعلام. كما أن إقصاء النخب الفكرية والنقدية أمام صعود “نجوم التفاهة” أفرغ المجتمع من وسائط التعبير العقلاني، وهو ما مهد لعودة الغضب الشعبي في شكل احتجاجات غير منظمة، لأن المجتمع ببساطة في غياب هذه النخبة الوسيطة فقَد أدواته الطبيعية لتصريف الغضب، فتحول بذلك الاحتقان إلى عنف في الشارع.
فالمغرب- يقول أوريد- أضحى بلا طبقة سياسية حقيقية، ولا نخبة فكرية يعتد بها. وزراؤه، في الغالب، بلا نكهة ولا كاريزما، لا يجيدون الحديث ولا يتقنون فن التواصل، وهو من أبجديات الفعل السياسي وأساس شرعيته. وليس في ذلك إنكار لوجود سياسيين مفوهين ومثقفين حصيفين في البلاد، لكنّهم غُيّبوا عن دائرة التأثير، وانزاحوا إلى الهامش، فصار المشهد العام باهتا، يفتقر إلى العمق والرؤية والقدرة على الإلهام.
ويضيف أوريد أن التفاوتات الاجتماعية صاحبتها أوليغارشيات مالية جديدة أصبحت تتحكم في القرار السياسي من وراء الستار، وامتدت هذه الثنائية إلى الإدارة نفسها، حيث توجد مؤسسات خاصة متطورة بمستوى عالمي، في مقابل مؤسسات عمومية منهارة تعاني ضعف الموارد والتسيير. حتى وزارة الداخلية، التي كانت مثالا في الفعالية، غرقت ـ حسب أوريد ـ في روتين إداري وتقني جعلها تفقد طابعها العملي.
كما يربط أوريد بين الغضب الداخلي والأحداث الدولية، مشيراً إلى أن الحرب في غزة زادت منسوب الاحتقان وأعادت تعبئة الشارع المغربي، حيث امتزجت مشاعر التضامن مع الفلسطينيين بالتعبير عن الأوضاع الاجتماعية الداخلية، في تجسيد رمزي لتوحد الغضب الأخلاقي والسياسي، ولتتحول المظاهرات إلى فضاء مزدوج بين الهم الوطني والهم الإنساني.
وفي ختام مقاله، يرى المفكر أوريد أن احتجاجات “جيل زد” تمثل منعطفا في الوعي الجمعي المغربي، إذ غيّرت طبيعة النقاش العمومي من مواضيع هامشية ككرة القدم إلى قضايا جوهرية كالحكامة وتدبير الشأن العام. ويؤكد أن هذه الحركة الاجتماعية تشكل رجة ضرورية لإعادة توجيه القطار نحو السكة الصحيحة، ليس فقط لإصلاح المرافق الاجتماعية، بل لإعادة بناء منظومة القيم والنقاش العام.
وبناء على ذلك، يحذر صاحب كتاب “فخ الهويات” من أن الانتقال بين الأجيال يجب أن يتم بسلاسة حفاظا على تماسك الدولة والمجتمع، ويدعو إلى قراءة جديدة للمجتمع المغربي الذي تغيرت بنيته وقيمه ومرجعياته. ويشبّه الوضع الراهن بمرحلة “ميلاد مغرب جديد”، يستدعي وجود “قابلة فكرية وسياسية” قادرة على مرافقة التحول دون المساس بتماسك الدولة، ودون أن يصاب المجتمع بالارتباك والفوضى، وبالتالي تهديد الاستقرار.
بهذا الأسلوب، يجمع حسن أوريد بين عمق التحليل وجرأة التشخيص، وبين الحس النقدي والحرص الوطني، مؤكداً مرة أخرى مكانته كأحد أبرز المفكرين المغاربة القادرين على النفاذ إلى جوهر الأزمة المغربية بموضوعية ومسؤولية فكرية عالية. باختصار، فهو يمثل نموذج المفكر الذي يوازن بين النقد والمسؤولية، وبين الانخراط الفكري والوفاء لروح الوطن، ويقدّم فكره بصفته مرآة لعقل الدولة وضمير المجتمع في آن واحد.
د. مصطفى عنترة، كاتب صحفي.

مقالات ذات صلة