أحمد الدغرني.. سيرة مناضل استثنائي في ذاكرة الأمازيغية

تحل الذكرى الخامسة لرحيل أحد أبرز رموز الحركة الأمازيغية في المغرب وشمال أفريقيا، بل ومن الشخصيات القليلة التي امتد تأثيرها إلى “الدياسبورا” الأمازيغية عبر العالم، المناضل الحقوقي والسياسي والمفكر الأستاذ أحمد الدغرني، الذي مثّل نموذجا نادرا في الجمع بين الفكر والممارسة، وبين التنظير والفعل، وبين الشجاعة والمبدئية في زمن كانت فيه الكلمة الحرة تُكلّف أصحابها ثمنا غاليا.
امتاز الراحل الدغرني بجرأته الفكرية وصلابته المبدئية، فقد كان من القلائل الذين لا يخشون قول كلمة “لا” حين يقتضي الواجب الوطني والإنساني ذلك، مؤمنا بأن الحرية لا توهب بل تُنتزع بالنضال والصمود. كان فكره مشبعا بروح المقاومة الثقافية والسياسية، ومنفتحا في الوقت ذاته على آفاق التعدد والديمقراطية والحداثة، يؤمن بأن التعدد اللغوي والثقافي ثراء وليس تهديدا، وأن المغرب الحقيقي لا يكتمل إلا بتصالحه مع جذوره الأمازيغية. ولعل هذه التركيبة الفكرية هي ما جعلته شخصية استثنائية داخل المشهد المغربي المعاصر.
إن المتأمل في المسار النضالي لأحمد الدغرني يقف أمام سلسلة من المحطات المفصلية التي ساهمت في تشكيل وبلورة المشروع الأمازيغي الحديث في المغرب.
فمنذ انخراطه المبكر في الفعل الجمعوي والثقافي، مرورا بتأسيس المبادرات الحقوقية، وصولا إلى المحاولات الجريئة لتأسيس حزب سياسي ذي مرجعية أمازيغية، ظل الرجل مؤمنا بأن النضال الثقافي لا يكتمل إلا بترجمته إلى فعل سياسي مؤثر ومؤسساتي واضح. وقد ترأس المجلس الوطني للتنسيق بين الجمعيات الأمازيغية في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وقدم مذكرة إلى القصر الملكي سنة 1996 حول دسترة اللغة الأمازيغية، في وقت كان الحديث عن ذلك يعد مغامرة سياسية. كما كان من الموقعين على “بيان بشأن ضرورة الاعتراف الرسمي بامازيغية المغرب” أو ما عرف ب”البيان الأمازيغي” سنة 2000، وهو البيان الذي اعتبر خطوة حاسمة نحو الاعتراف الرسمي بالأمازيغية كمكون أصيل من مكونات الهوية الوطنية.
وفي سنة 2005، قاد معركة تأسيس حزب سياسي ذي مرجعية أمازيغية، مؤمنا بأن الانتقال إلى الفعل السياسي هو مرحلة ضرورية لتكريس المساواة والعدالة الثقافية، لكنه واجه قرار المنع من وزارة الداخلية، فاختار أن يخوض المعركة قضائيا دفاعا عن حقه وحق غيره في التنظيم السياسي الحر، مبرهنا على إيمانه بسيادة القانون والديمقراطية. كما كان من الداعمين لمبادرة تأسيس حزب “تامونت للحريات”، التي كانت تهدف إلى تجسيد مشروع سياسي وطني جامع يؤمن بالتعدد الثقافي واللغوي والديمقراطية، غير أن المشروع لم يكتب له الاكتمال.
لم يكن نضال الدغرني محصورا داخل حدود الوطن، بل حمل القضية الأمازيغية إلى المحافل الدولية، مدافعا عنها في المؤتمرات والمنتديات العالمية. فقد شارك في مؤتمر حقوق الإنسان بفيينا سنة 1993، وساهم في تأسيس الكونغرس العالمي الأمازيغي سنة 1997مدافعا عن الحقوق الثقافية واللغوية لشعوب شمال أفريقيا، وكان حاضرا بقوة في النقاشات الدولية حول حقوق الشعوب الأصلية. كما لم يتردد في مواجهة التيارات القومية العروبية المتطرفة عبر الإعلام الدولي، خصوصا في حواراته الجريئة على قناة “الجزيرة” القطرية، حيث دافع عن مغرب التعدد والاختلاف والانفتاح دون أن يفقد بوصلته الوطنية أو يساوم على ثوابته.
وعلى المستوى المهني، برز أحمد الدغرني كمحامٍ متمرس، سخر خبرته القانونية الواسعة للدفاع عن معتقلي الحركة الأمازيغية وعن نشطاء حراك الريف وغيرهم من سجناء الرأي، مؤمنا بأن المحاماة ليست مجرد مهنة، بل رسالة للدفاع عن الكرامة الإنسانية والحق في الحرية والعدالة. كما كان من الداعمين ل”حركة 20 فبراير” زمن ” ربيع الشعوب” الذي إجتاح دولا في شمال أفريقيا والمشرق العربي، مناصرا لمطالبها في الكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتصدي للفساد.
كان يؤمن بأن الأمازيغية ليست مجرد لغة، بل رؤية للعالم، تقوم على التعدد والانفتاح والتسامح. لذلك ظل يدعو إلى إعادة الاعتبار للإنسان الأمازيغي، وللقرى المهمشة، وللتاريخ الذي أُقصي طويلا من الذاكرة الوطنية الرسمية.
لقد أنصفه التاريخ، وإن تأخر الإنصاف. فعلى الرغم من ما تعرض له من مضايقات وإقصاء من بعض المؤسسات الرسمية، وعلى الرغم من الحملات التي استهدفت شخصه وأفكاره، فإن رؤيته الاستشرافية تحققت في كثير من جوانبها. فقد تم ترسيم اللغة الأمازيغية دستوريا، وتم الاعتراف بالسنة الأمازيغية عيدا وطنيا، الى جانب الخطوات الكبرى في مسار المصالحة مع التاريخ والهوية المغربية المتعددة… وهي كلها أفكار كان الدغرني قد نادى بها منذ عقود في زمن كان يُتهم فيه أصحاب هذه المواقف بالانفصال أو التطرف الثقافي.
تعرض الدغرني للإقصاء من عضوية بعض المؤسسات الوطنية كالمجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في قرار أثار استغراب المتتبعين وشنت ضده حملات منظمة من خصوم التعدد والاختلاف، لكن بعد وفاته جاء الاعتراف الملكي الرفيع بفضله وقيمته. فقد تضمنت برقية التعزية التي وجهها الملك محمد السادس إلى أسرته كلمات قوية ومعبرة واعترافا جليا بقيمته الوطنية والمهنية، حيث ورد فيها:
“بهذه المناسبة المحزنة، نعرب لكم، ومن خلالكم لكافة أهل الفقيد وأقاربه وأصدقائه، ولعائلته الحقوقية الكبيرة، عن أحر التعازي وأصدق مشاعر المواساة، في فقدان مناضل حقوقي، مشهود له بالكفاءة المهنية، وبالالتزام بنبل وشرف مهنة المحاماة وقضايا حقوق الإنسان.”( انتهى كلام الملك)
إن أحمد الدغرني لم يمت في الحقيقة، فالأفكار لا تموت، والرجال الكبار يخلدون بمواقفهم لا بأعمارهم. سيظل في ذاكرة كل مناضل شريف، وكل مؤمن بمغرب متعدد، حر، ديمقراطي، يتسع للجميع. لقد كان الدغرني مدرسة في النضال الفكري والسياسي، ومثالاً في الشجاعة والنزاهة الفكرية، وواحداً من أولئك الذين حملوا عبء التأسيس والتنوير في زمن الصمت والتردد.
رحل أحمد الدغرني الجسد، لكن “دا حمّاد” – كما كان يُلقب – ظل حاضراً في وجدان الأحرار، وفي ذاكرة كل مناضل يؤمن بمغرب التعدد، ومغرب العدالة والكرامة. إن فكره ما يزال ينير دروب الباحثين عن الحرية، ويغذي الإيمان بضرورة بناء وطن يتسع لكل أبنائه، بمختلف لغاتهم وثقافاتهم وهوياتهم.
لقد كان الدغرني رجل فكر ونضال وموقف، جمع بين المحاماة والحقوق، بين الأدب والسياسة، بين الجرأة والاتزان، وترك للأجيال القادمة إرثا نضاليا وأخلاقيا سيبقى شاهدا على زمن الرجال الكبار.
وبينما رحل الجسد، فإن اسمه ما زال حاضرا في الذاكرة الأمازيغية والحقوقية المغربية كـرمز للجرأة الفكرية والاستقلالية الأخلاقية، وكشاهد على مرحلة من التحولات الكبرى في علاقة المغرب بذاته وتاريخه.
رحم الله أحمد الدغرني، وجعل ذكراه نبراسا للأجيال القادمة في مسيرة الحرية والعدالة والكرامة.
مصطفى عنترة، كاتب صحفي.