قانون المسطرة المدنية الجديد… عندما تسبق الإجراءات العدالة ويتأخر الدستور

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
في كل الأنظمة الديمقراطية، يُفترض أن يكون القانون الإجرائي أداة لتيسير الوصول إلى العدالة، لا أن يتحول إلى جدار عالٍ يفصل المواطن عن حقوقه، لكن ما كشفه قرار المحكمة الدستورية الصادر في 4 غشت 2025 بخصوص قانون المسطرة المدنية الجديد، يضعنا أمام واقع مقلق: النصوص التي يفترض أن تضمن المحاكمة العادلة قد تنقلب، في بعض الأحيان، إلى أدوات لتعقيدها أو تقويضها.
إن جوهر الإشكال لا يكمن فقط في المواد التي قُضي بعدم دستوريتها، بل في المنطق التشريعي الذي سمح بظهورها في صيغة تخالف مبادئ سمو الدستور. وهذا يثير أسئلة عميقة: كيف تمر مثل هذه المقتضيات من قنوات الإعداد والمصادقة؟ وهل نحن أمام أزمة تقنية أم أمام تصور مغاير لوظيفة العدالة؟
قيود غير مبررة على الحق في التقاضي
أول ما يلفت الانتباه هو المادة 17، التي وضعت قيودًا وشروطًا مبالغًا فيها لممارسة الحق في رفع الدعاوى أو الطعن في الأحكام.
فالمحكمة الدستورية رأت أن هذه القيود تتنافى مع الفصل 118 من الدستور الذي يكفل للجميع حق اللجوء إلى القضاء بشكل متكافئ.
الحق في التقاضي لا يمكن أن يكون مشروطًا بسلسلة من الحواجز الشكلية، لأن ذلك يحوّل العدالة من حق أصيل إلى امتياز يمنح لمن استطاع تجاوز هذه العراقيل.
إجراءات تضيق الخناق على الدفاع
القانون الجديد، عبر مواده 408 و410، ألزم الأطراف بتقديم جميع وسائل دفاعهم ووثائقهم في آجال قصيرة، مع ترتيب جزاء “عدم القبول” على أي إخلال بهذه المواعيد.
هذا التشدد الزمني قد يبدو، في ظاهره، محاولة لضبط المسطرة، لكنه في جوهره قد يحرم المتقاضين من عرض دفوعهم كاملة، خاصة في الملفات المعقدة أو التي تتطلب بحثًا معمقًا.
المحكمة الدستورية أكدت أن حق الدفاع ليس تفصيلًا إجرائيًا، بل هو من صلب المحاكمة العادلة، وأي قيد غير مبرر عليه هو انتهاك مباشر لمقتضيات الدستور.
سلطات واسعة في ضبط الجلسات
المقتضيات التي منحت للقاضي سلطة ضبط الجلسات كانت بدورها محل ملاحظة.
فبينما لا أحد ينكر ضرورة الانضباط داخل قاعة المحكمة، إلا أن منح سلطات واسعة دون تحديد ضوابط دقيقة قد يفتح الباب أمام تقييد حرية المرافعة. المحكمة شددت على أن التوازن مطلوب: فلا فوضى تعطل العدالة، ولا صرامة مفرطة تخنقها.
التنفيذ الجبري والطعن المحدود
في مرحلة التنفيذ، التي تعد أخطر مراحل المسطرة، نص القانون على آجال قصيرة للطعن في الإجراءات، كما في المادة 84 وما يليها. المحكمة رأت أن هذه القيود يمكن أن تمنع المتضرر من التصدي لإجراءات باطلة أو متعسفة، ما يشكل مساسًا بمبدأ حماية الحقوق والممتلكات.
التنفيذ ليس إجراءً شكليًا، بل هو لحظة ترجمة الحكم إلى واقع، وأي تضييق على حق الطعن فيها يعني ترك المواطن دون حماية فعلية.
الإحالات الغامضة وإشكالية الأمن القانوني
أحد المؤشرات على ضعف الصياغة التشريعية هو وجود إحالات على مواد غير واضحة أو حتى غير موجودة، كما في المادة 258 التي تحيل على مادة 284 في غير محلها.
هذا النوع من الصياغة يضرب مبدأ الأمن القانوني، لأن المواطن – وحتى القاضي – يجد نفسه أمام نصوص مبهمة تفتح المجال لتفسيرات متناقضة.
البعد الفلسفي للأزمة
إذا تجاوزنا تفاصيل المواد، فإن المشهد العام يكشف عن خلل في فلسفة التشريع: التركيز المفرط على ضبط المساطر والآجال والإجراءات، مقابل إهمال الجوهر الذي هو ضمان الحق في محاكمة عادلة.
هذا التصور يجعل من الشكل غاية في حد ذاته، ويختزل العدالة في إدارة الوقت والملفات، بدل أن تكون بحثًا عن الإنصاف والحقيقة.
المحكمة الدستورية كصمام أمان
القرار الأخير للمحكمة الدستورية أعاد التأكيد على دورها كصمام أمان لحماية الحقوق، وضمان احترام مبدأ سمو الدستور، لكنها، مهما بلغت قوتها، لا يمكن أن تكون الحل الوحيد.
فالمطلوب هو إصلاح فلسفة التشريع من الأساس، بحيث لا نصل أصلًا إلى مرحلة إسقاط مواد بأحكام بعدم الدستورية.
ختاما: القانون الإجرائي ليس أداة للبيروقراطية القضائية، بل وسيلة لفتح الطريق أمام العدالة.
وإذا تحول هذا القانون إلى متاهة من القيود والآجال والإحالات الغامضة، فإن الخاسر الأول هو المواطن، والخاسر الأكبر هي ثقة المجتمع في العدالة.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من وعي المشرّع بأن الدستور ليس سقفًا شكليًا يراجع به النص قبل المصادقة، بل هو روح يجب أن تتغلغل في كل حرف من القانون. فبدون ذلك، ستظل القرارات الدستورية تتوالى، وستظل الفجوة بين النص والعدالة قائمة، على حساب حقوق الناس وأمنهم القانوني.