بين الظاهر والمضمر: البنية الحجاجية لخطاب السياسة اللغوية.. قراءة في كتاب ” من التعدد إلى التعددية .. محاولة لفهم

رهانات السياسة اللغوية بالمغرب"

يمكن اعتبار مضامين وفصول كتاب “من التعدد إلى التعددية .. محاولة لفهم رهانات السياسات اللغوية بالمغرب” لسعيد بنيس نموذجًا لخطاب تحليلي معاصر ينخرط في تفكيك السياسات اللغوية الرسمية بالمغرب، مستندًا إلى أدوات أسلوبية ودلالية دقيقة. يفتتح الكاتب نصه بكلمة “يبدو”، وهي ليست مجرد أداة افتتاحية، بل تمثل مؤشرًا دقيقًا على نوعية الخطاب المعتمد؛ إذ توحي بالتردد الإيجابي أو الحذر العلمي، مما يبعد النص عن الأحكام الجازمة ويمنحه طابعًا تحليليًا وتفسيريًا.

بهذا، يتموضع النص داخل أفق معرفي يفضل البناء التأويلي على الإطلاقية، ويوجه القارئ منذ البداية نحو الانخراط في قراءة نقدية لا تسعى إلى اليقين، بل إلى مساءلة الواقع اللغوي القائم. المعجم الموظف في النص ينهض على ثنائية بارزة بين واقع لغوي تعددي من جهة، وممارسات مؤسساتية أحادية من جهة أخرى. يتكرر حضور ألفاظ مثل “الهيمنة”، “الإقصاء”، “التمثلات الأحادية”، مقابل ألفاظ من قبيل “التفاوض”، “الوساطة”، “التعددية”، مما يعكس توترا دلاليًا مقصودًا، يُراد به الكشف عن المفارقة العميقة بين الخطاب السياسي الذي يروّج للتعدد، والممارسات الفعلية التي تعيد إنتاج منطق الإقصاء والتراتبية اللغوية.

هذا التوتر ليس مجرد مادة توصيفية، بل يشكل نواة الحجاج في النص، إذ يُستثمر لبناء حجة مزدوجة: نقدية من حيث الكشف عن أعطاب تدبيرية، واقتراحية من حيث الدفع نحو نماذج بديلة تقوم على التشارك والعدالة اللغوية. الكاتب لا يهاجم السياسات اللغوية بشكل مباشر، بل يعتمد أسلوبًا حجاجيًا رصينًا يقوم على التدرج والتفسير واستحضار الروابط العقلية التي تربط المقدمات بالنتائج.

فهو لا يقول “إن السياسات فاشلة”، بل يبيّن أن “مسلسل التدبير اللغوي تحسمه سيرورة أحادية التمثلات”، ليترك للقارئ استنتاج الموقف الضمني. وتُستخدم في هذا السياق مجموعة من الروابط اللغوية الحجاجية مثل “مما يعني”، “وهو ما يسمح”، “بما يجعل”، “خاصةً”، “ثم”، “أي”، وكلها أدوات تسهم في تحقيق الانسجام النصي، لكنها أيضًا أدوات وظيفية في بناء الحجاج وتوجيه القراءة. ما يعمّق البناء الحجاجي في النص هو غياب الأمثلة المباشرة مقابل حضور كثيف للإحالات الضمنية إلى الوضع اللغوي المغربي، مثل الحديث عن “اللغات الوطنية”، “اللغة الرسمية”، “اللغات الأجنبية”، و”التمثلات الاجتماعية”.

مما يجعل القارئ يستحضر بشكل عفوي صورًا ملموسة من الواقع: مكانة الفرنسية، موقع الأمازيغية، تداول الدارجة، دون أن يصرّح الكاتب بذلك. هذا الاقتصاد في اللغة يضفي على النص كثافة دلالية ويمنحه سلطة معرفية، كونه لا يحتاج إلى التبرير المفرط، بل يكتفي بإشارات تُفَعِّل الخلفية السوسيو-لغوية للقارئ. فالأسلوب الذي يعتمد عليه الكاتب هو أسلوب تفسيري حجاجي، يركّز على تفكيك البنيات العميقة التي تؤطر السياسات اللغوية، وليس فقط على نقد النتائج الظاهرة.

فنحن أمام خطاب لا يكتفي بوصف المظاهر، بل ينزع نحو تحليل الآليات التي تنتج “التمثلات الأحادية” داخل المؤسسات، ويقترح تجاوزها عبر إعادة بناء النسق اللغوي الوطني على قاعدة التعددية الفعلية لا الشكلية. ومن هنا، تبرز الأهمية الكبرى لتحليل البنية اللغوية للنص، إذ ليست اللغة وسيلة تعبير فحسب، بل هي جزء من المعركة الرمزية حول من يتحكم في شرعية اللغة وموقعها في الدولة والمجتمع.

إن الخطاب الذي يقدمه الكتاب لا يمكن فهمه خارج رهاناته السياسية والمعرفية. فهو يندرج في إطار نقد السياسات العمومية في حقل اللغة، لكنه يفعل ذلك بلغة أكاديمية صارمة، تتجنب المباشرة والشعارات، وتراهن على الاستدلال والتحليل المنهجي. كل ذلك يجعل من النص نموذجًا دالًا على كيفية توظيف الأدوات الأسلوبية والدلالية لبناء خطاب حجاجي رصين، قادر على مساءلة النسق المهيمن واقتراح أفق لغوي جديد يقوم على التعدد الحقيقي والاعتراف المتبادل بين مكونات المشهد اللساني المغربي.

محمد بحمي

مقالات ذات صلة