“التربية الدامجة في المغرب: بين الإكراهات البنيوية والتحولات السوسيولوجية نحو عدالة تعليمية شاملة”

في السنوات الأخيرة، أضحى الحديث عن “التربية الدامجة” في المغرب حاضراً بقوة في مختلف الخطابات الرسمية، التربوية، والحقوقية. ولئن بدا الأمر في ظاهره تجاوباً محموداً مع توصيات المنظمات الدولية ومع ما تمليه الاتفاقيات المصادق عليها، فإنه في العمق يكشف عن مفارقة سوسيولوجية لافتة: كيف لنظام تعليمي يرزح تحت أعباء اختلالات بنيوية وهيكلية أن يحتضن مشروعاً يقوم على فلسفة الإنصاف، وتكافؤ الفرص، وإعادة الاعتبار للفئات الأكثر هشاشة؟ وهل نحن أمام إصلاح حقيقي، أم مجرد تكيّف شكلي مع موضة عالمية تتبناها الدول شكلا وتقصيها واقعا؟

المقاربة الدامجة لا تعني فقط إدخال الأطفال ذوي الإعاقة إلى الفصول العادية، بل تستبطن تحولا جذريا في البنية الذهنية والثقافية التي تؤطر مفهوم التعليم ذاته. فبدل أن يُنظر إلى المتعلم كنسخة معيارية من “التلميذ النموذجي”، تصبح المدرسة فضاءً يقبل الاختلاف ويحتضن التنوع في القدرات والخلفيات والاحتياجات. وهذا التحول يرتبط، كما يؤكد علماء الاجتماع من أمثال بيير بورديو وإميل دوركهايم، بوظيفة المدرسة كمؤسسة منتجة للتماسك الاجتماعي، أو أحياناً لإعادة إنتاج التفاوتات الطبقية والثقافية.

من هذا المنظور، فإن تبني المغرب لخطاب التربية الدامجة لا يمكن أن يُفهم خارج سياقه السوسيولوجي، حيث تتقاطع الإعاقة مع الفقر، والجغرافيا مع التهميش، والنوع الاجتماعي مع التفاوت الطبقي. إذ تشير المعطيات الواقعية إلى أن معظم الأطفال في وضعية إعاقة القاطنين في الأرياف أو في الهوامش الحضرية نادراً ما يتمكنون من ولوج المدرسة، وإن ولجوها، فهم غالباً ما يغادرونها في سن مبكرة بسبب غياب بنية تحتية مهيأة، وموارد بشرية مؤهلة، ونظرة مجتمعية إيجابية تجاههم.

الثقافة المدرسية في المغرب لا تزال، في جزء كبير منها، حبيسة مقاربات تصنيفية تقليدية، حيث يُختزل التلميذ ذو الإعاقة في “حالة خاصة”، تستوجب التعامل معها عبر برامج موازية، إن لم نقل عبر التهميش الصامت. فلا عجب أن نجد فصولا مدرسية مكتظة، لا تتوفر فيها شروط الحد الأدنى من الإدماج، ومدرسين لم يتلقوا تكوينا يهيئهم للتعامل مع فوارق التلاميذ النفسية أو الإدراكية، ما يخلق نوعاً من العجز البنيوي في تفعيل المبادئ التي تحملها النصوص التشريعية.

المفارقة الكبرى أن الخطاب الرسمي في المغرب يُصرّ على تبني التربية الدامجة بوصفها إحدى أولويات “الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم”، لكن الواقع يكشف عن فجوة عميقة بين التصور والممارسة. وهو ما يدفع بعدد من الباحثين المغاربة، مثل الصديق الصادقي العماري، إلى التنبيه إلى خطورة تبني مفاهيم حداثية دون توفير شروطها الاجتماعية والمؤسساتية، بما في ذلك إعادة النظر في السياسات العمومية، وتوزيع الموارد، ومناهج التكوين، فضلا عن تحصين المدرسة من النزعات الإقصائية.

وليس التحدي فقط في العوائق المادية، بل في البنية الرمزية التي لا تزال ترى في الإعاقة “نقصاً” لا “اختلافاً”، وفي التلميذ المختلف عبئاً لا فرصة لإثراء التنوع. وهو ما يتطلب ثورة ثقافية حقيقية داخل المجتمع المدرسي، تشمل الإدارة، والمدرّسين، وأسر التلاميذ، والمناهج، والبرامج، بل وحتى المعمار المدرسي ذاته.

التربية الدامجة في المغرب، إذن، ليست مجرد “خيار تربوي”، بل هي مرآة تعكس علاقتنا بالعدالة، بالاختلاف، وبحقوق الإنسان. فحين تُفتح أبواب المدرسة للجميع دون استثناء، وحين تتكافأ الفرص داخل الفصل الواحد، تكون الدولة قد خطت أولى خطواتها نحو مشروع مجتمعي أكثر دمقرطة. أما حين تظل التربية الدامجة مجرد شعار معلّق على جدران المؤسسات أو بندا في وثائق رسمية، فإن المدرسة ستظل كما كانت: مؤسسة لإعادة إنتاج الفوارق، لا لتقليصها.
صفوة القول،لا يمكن الحديث عن إدماج تربوي حقيقي دون عدالة اجتماعية، ولا عن مدرسة دامجة دون إرادة سياسية تترجم النصوص إلى ممارسة، والحقوق إلى واقع. وبين الإكراهات البنيوية والطموحات الحقوقية، تظل التربية الدامجة امتحاناً حقيقياً لنموذجنا التعليمي، ومؤشراً دقيقاً على مدى تحول المدرسة المغربية إلى فضاء للعيش المشترك، لا مجرد مصنع للانتقاء والفرز الاجتماعي وتكريس الفوارق والإقصاء واللاتكافؤ.

زينب الجعنين:باحثة في سوسيولوجيا التربية

مقالات ذات صلة