بعيدا عن الجهوية المتقدمة…بين الفنيدق وآيت بوكماز

الجهوية المتقدمة، بإعتبارها آلية حكامة ترابية ووسيلة مبتكرة لتحقيق التنمية المحلية، تضمنها الخطاب الملكي التاريخيّ ل 9 مارس كخيار إستراتيجي يهدف إلى الأخذ بعين الإعتبار الخصوصية المجالية لكل جهة على حدة من خلال تنوع المكونات وإختلاف الخصائص الإقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وبعد استكمال الترسانة القانونية من خلال القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، والذي يحدد اختصاصاتها الذاتية والمشتركة والمنقولة. كما ينص هذا الإطار القانوني على ضرورة التعاون بين الدولة والجهات، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلا عن إصدار الميثاق الوطني للاتمركز الإداري الذي شكل دعامة أساسية لإنجاح هذا الورش بالإضافة للقانون الإطار 22-03 بمثابة ميثاق للإستثمار يضم بين أهدافه تقليص الفوارق المجالية من حيث جذب الاستثمارات. اليوم، نجد أنفسنا أمام عجز واضح في التنزيل الفعلي والسليم لهذا الورش حيث يواجه تنزيل الجهوية المتقدمة تحديات عدة. ومن بين هذه التحديات، عدم التوازن بين الجهات من حيث الموارد والقدرات، حيث ما زالت بعض الجهات تعاني من ضعف في البنية التحتية، ونقص في الكفاءات البشرية المؤهلة. كما أن هناك تأخيرا في نقل بعض الاختصاصات والموارد المالية من الدولة إلى الجهات، مما يعيق تحقيق استقلالية هذه الأخيرة.

كما أن غياب هذا الورش الاستراتيجي عن أجندة الحكومة وبرامجها، والتي من المفروض أن يكون أولوية الأولويات بالنسبة لحكومة إمتدت حلقتها من الأغلبية الحكومية إلى أصغر جماعة قروية في منطقة جبلية نائية، فعوض الإستقواء العددي بالشرعية الانتخابية المزعومة، كان حريا بالحكومة على أن تستغل فرصة الإستفراد بالحكومة والجماعات الترابية، خصوصا الجهات، في مباشرة التنزيل الفعلي لمشروع الجهوية المتقدمة. حيث أن غياب إرادة سياسية حقيقية وتهاون الفاعل السياسي أفضى إلى بروز تحركات اجتماعية لافتة، تأتي من مناطق لطالما وُصفت بـ”الهامشية”، لكنها صارت اليوم في قلب النقاش السياسي والتنموي بالمغرب. في الشمال، كانت مدينة الفنيدق على موعد مع موجة هجرة جماعية غير مسبوقة، قادها شباب يائس نحو سبتة المحتلة. وفي قلب الأطلس، خرجت ساكنة أيت بوكماز في مسيرة احتجاجية مشيًا على الأقدام، قاصدين بني ملال للمطالبة بأبسط شروط العيش الكريم.

ورغم بعد المسافة بين الحالتين جغرافيًا، فإن الرابط بينهما عميق: تجليات صارخة لتأخر الحكومة في تنزيل الجهوية المتقدمة كرافعة للتنمية المحلية وتقليص الفوارق المجالية.

قبل أكثر من عقد، أطلق الملك محمد السادس ورش الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي يهدف إلى تمكين الجهات من صلاحيات أوسع، وتطوير حكامة ترابية تجعل المواطن في صلب السياسات العمومية. لكن، كما يظهر في هذين المثالين، فإن التنزيل ظل بطيئًا، محتشمًا، ومفتقدًا لروح العدالة المجالية. فلا الميزانيات كافية، ولا الموارد البشرية مؤهلة، ولا التنسيق بين الدولة المركزية والجهات بلغ المستوى المنشود.

ما بين هجرة الفنيدق ومسيرة أيت بوكماز، مسافة جغرافية كبيرة، لكن ما يجمعهما أقوى من المسافة: إحساس عارم بالحيف والتهميش. وعندما يشعر المواطن بأن منطق الدولة لا يصله، وأن السياسات تُرسم في المكاتب المركزية دون اعتبار لخصوصيات مجاله الترابي، فإن رد الفعل يكون إمّا بالاحتجاج، أو بالهروب. الهجرة الجماعية، والمسيرات القروية، والاحتجاجات المتكررة في هوامش المغرب، هي رسائل صريحة تستدعي الوقوف عند سؤال محوري:

هل نحن بالفعل بصدد تنزيل جهوية متقدمة، أم أننا لا زلنا نُدير البلاد بعقلية المركزية؟

الواقع يؤكد أن الأمر يتطلب أكثر من قوانين وبلاغات، بل إرادة سياسية حقيقية، وتمكين الجهات من صلاحيات مالية وتدبيرية فعلية، وتوزيع منصف للاستثمارات العمومية.

إن لم تُستدرك الفجوة المجالية المتزايدة، فإن الاحتجاجات والهجرة ستتحول من استثناء إلى قاعدة… ومن صرخة إلى قطيعة.

ذ.أمين الزيتي

دكتور باحث بجامعة مونبولييه

عضو المكتب السياسي لحزب الحركة الشعبية

مقالات ذات صلة