من يصنع الوعي الجمعي في زمن السوشل ميديا؟
قراءة تحليلية في قلب فوضى الرقمنة والانفعالات الجماعية

بقلم: الدكتور عبدالإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
لم تعد صناعة الوعي الجمعي رهينة غرف التحرير أو المنابر الأكاديمية، ولا حكرًا على النخب السياسية أو الثقافية، لقد تسللت هذه الصناعة تدريجيًا من الأبراج العاجية إلى شاشات الهواتف، حيث تُنتج الأفكار وتُهندس القناعات عبر خوارزميات تتغذى على “الترند”، ومؤثرين يُتقنون اللعب على أوتار الانفعال اللحظي، أكثر مما يُحسنون إنتاج المعنى أو بناء الفهم.
في زمن السوشل ميديا، لم يعد الوعي الجمعي ما نتداوله من أفكار، بل ما يُضَخّ فينا من انفعالات سريعة، بلا جذور معرفية، ولا تدقيق في السياقات أو تعقيد الواقع.
فما الذي يعنيه اليوم أن “تتكوَّن قناعة عامة” حول قضية ما؟
من يحدد لغة النقاش وحدوده؟
من يفرض أولويات القضايا؟
ومن يملي علينا شكل التضامن، وصيغة الغضب، وطريقة الفهم؟
لم يعد السؤال هو: ما الحقيقة؟
بل: ما الذي يتداول أكثر؟
إنها سلطة الوسيط الرقمي التي قلبت منطق الهيمنة الرمزية: لم تعد المدرسة أو النقابة أو الحزب مصدر بناء الوعي، بل “الهاشتاغ”، و”الفلوغ”، و”الستوري” السريع الزوال.
وقد أشار “بيير بورديو” إلى أن الوعي الجمعي يُصنع داخل حقول رمزية متصارعة، لكننا نعيش اليوم لحظة انفجار تلك الحقول التقليدية، لم يعد الصراع رأسيًا بين سلطة معرفية وجمهور، بل أفقيًا بين عشرات ومئات الفقاعات الرقمية، التي يتناسل فيها وعي هجين، يختلط فيه التسلية بالتحريض، والنقد الجاد بنظرية المؤامرة، واليقين الجاهز بالسخرية السطحية.
هنا تُصبح المعرفة مسألة ثانوية، ويُعاد تدوير القناعات في قوالب استهلاكية، تروّج للانفعال بدل الفهم، وللرأي السريع بدل النقد المتأني.
هل يمكن الحديث عن وعي نقدي في بيئة تشجّع الاستهلاك اللحظي للمعلومة؟
وهل يستطيع المتلقي التمييز بين “المعرفة” و”الإثارة” حين تتساوى المسافة بين التحليل الجاد و”الميم” الساخر؟
الأخطر من ذلك أن الأجيال الجديدة باتت تتشكل معرفيًا داخل غرف صدى مغلقة، حيث تُعاد إنتاج القناعات الشخصية في شكل يقين جمعي، فتتحوّل “المعلومة المكرّرة” إلى حقيقة لا تقبل النقاش.
فهل ما زال هناك مكان للشك، للبحث، للجدل؟
أم أن “رأي الأغلبية الرقمية” بات مرجعية جديدة تُقصي أي تفكير مخالف؟
كيف يمكن للوعي أن يتطور إذا كانت وظيفته الأساسية صارت “تأكيد الذات” بدل اختبارها أو مساءلتها؟
في هذا السياق، يبرز سؤال التأطير بقوة:
من يرافق هذا التشكل الجديد للوعي؟
هل يمكن للمدرسة، بصيغتها الكلاسيكية، أن تواكب هذا الطوفان من المعاني المتضاربة؟
هل تملك الأدوات البيداغوجية، والمرجعية القيمية، لإعادة ربط المتعلّم بالواقع بدل الوهم؟
وهل ما زالت للأسرة سلطة القيم، في ظل تربويات موازية تغمر الطفل والمراهق بمحتوى يتجاوز سلطتها التربوية بمراحل؟
الوعي الجمعي لم يمت، لكنه اختُطِف.
صانعوه اليوم ليسوا حكماء المدينة، بل مهندسو المحتوى، والجهات الخفية التي تتحكم في ما يظهر أولًا في صفحاتنا.
فمن يصوغ مخيالنا اليومي؟ من يتحكم في أولويات غضبنا وتعاطفنا؟
وهل ما نظنه “حريّة” رقمية هو في الحقيقة حرية زائفة ضمن مسارات موجهة بعناية؟
هنا، لا مناص من الإشارة إلى أن الرقمنة لا تُنتج وعيًا فقط، بل تُعيد تشكيل الذات.
تمنحنا الشعور بأننا نُفكّر، بينما نحن نستهلك، تمنحنا الانخراط، بينما نحن موضوعات داخل مخطط أكبر، تُدار فيه المعارك الرمزية عن بعد، ويُعاد فيها تشكيل الرأي العام دون حاجة للقوة، فقط عبر تدفق ذكي للمحتوى.
من هنا، تبرز الحاجة إلى جبهة جديدة:
ليست سياسية ولا حزبية، بل تربوية، معرفية، ثقافية، تستهدف تحصين الإنسان ضد وهم “الوعي السهل”، وضد الشعور المضلِّل بأن كل ما يُتداول هو بالضرورة حقيقي، وكل ما يلقى تفاعلاً واسعًا هو بالضرورة مُعبِّر عن الحقيقة.
فهل نحن مستعدون لتعليم النقد بدل الحفظ؟
ولتدريب الناشئة على بناء الرأي لا تكراره؟
وهل يمكن التفكير في مواطنة رقمية جديدة، تُعيد للإنسان مكانته كفاعل واعٍ، لا مجرد تابع مندهش؟
ختامًا، لا بد من إعادة طرح السؤال القديم – الجديد:
من يربي من؟
هل ما زال الإنسان يُشكِّل وسائطه، أم أن الوسائط أصبحت تُشكِّله وتُعيد تشكيله كل لحظة؟