”ولد الدوار”.. أو مواطن من “الدرجة الثانية”

كمال اشنيول
باحث ومحام بهيئة فاس
أن تكون مواطنا في قرى جبال المغرب، فهذا يعني أن تقضي أيامك تحت سقف من القهر والغبن، وسقف آخر من الصبر والانتظار.
هو أن ترى الوطن من زاوية لا يراها أحد، زاوية معتمة، نائية، باردة في الشتاء، قاسية في الصيف، ومهمشة طوال العام.
أن تكون ”ولد الدوار” مواطنا قرويا في تخوم جبال المغرب لا يعني فقط أن تعيش في منطقة بعيدة عن محيط صناع القرار، بل أن تعيش بعيدا عن كل ما يعنيه الوطن من خدمات، من مرافق، من عدالة ترابية، ومن مساواة في الحقوق.
في دواوير تاونات النائية، لا تصل الطرق إلا بشق الأنفس، ولا تصل سيارات الإسعاف إلا حين تُفقد الأرواح وتندمل الجروح، وهنا يصبح ”ولد الدوار” فعلاً مجرد رقم خارج دفاتر الحسابات السياسية، وبعيد عن عيون أصحاب المناصب والمسوؤليات.
في قرى تاونات وغيرها من الأقاليم القروية المنسية، لا تُبنى المستشفيات، بل تُبنى الأعذار. لا تُفك العزلة، بل تُعاد صياغتها في تقارير رسمية تتحدث عن “الإنجازات”.
التعليم؟ غالبا ما ينقطع وصول التلاميذ إلى حجرات الدراسة مع أول قطرات المطر، بعدما تغرق قاعات المدارس بمياه الأمطار أحيانا، وتنقطع المسالك الطرقية إذ وجدت، ولا تستأنف الدراسة إلى حين أن تجف الأحذية المبللة.
أما صحة ”ولد الدوار” فهي حلم معلّق بشروط، وعلى آجالات المواعيد الطبية الطويلة، وعلى سيارة إسعاف قد لا تأتي، أو طبيب قد لا يُرسل.
فيما شبكة الهاتف غائبة وأحيانا حاضرة لكنها لا تكفي لسماع نداءات الاستغاثة، أما الإنترنت، فإن الوصول إلى رسائل ”الواتساب” وحدها عملية شاقة، قد تتحول إلى حلم صعب المنال والتحقق.
الطفل في الجبل لا يحلم أن يكون طبيباً أو مهندساً. يحلم فقط أن تصل حافلة النقل المدرسي في موعدها. تحلم أمه بخبز يومها دون أن تقطع كيلومترات لجلب الخشب وحطب التدفئة.
ويحلم أبوه بالحصول على الدعم الاجتماعي المباشر في توقيته بعد اقتطاع مصاريف عملية التحويل.
إن المطلوب اليوم ليس فقط الاعتراف بمعاناة ”ولد الدوار”، بل الانكباب على رفع الظلم المزمن الذي لحق ساكنة القرى، وبذل الجهود المطلوبة للتخفيف من معانتها.
يتساءل ”ابن الدوار” أي عدالة مجالية نتحدث عنها ونحن لا نزال نرى طرقاً ترابية في وضعية كارثية تُسمى “مسالك قروية”، ومدارس من طين تُسمى “فرعيات”، ومستوصفات بدون أطباء تُسمى “مراكز صحية”.
المواطن القروي ليس مواطنا من الدرجة الثانية، بل هو مواطن منسي، تم عزله قسرا عن دائرة التنمية. وحين نُعيد الاعتبار له، لا نمنّ عليه، بل نصحح ظلما تاريخيا ونضمن له الاستفادة من حقوقه على غرار مواطني ”الدرجة الأولى”.
حين يشاهد المواطن الجبلي عبر شاشة صغيرة، إن توفرت، مظاهر الرفاهية في الرباط وباقي المدن المحظوظة، من طرق مهيأة، ومستشفيات متطورة، وفضاءات خضراء، يشعر وكأنه يطلّ على وطن آخر.
وطن لا يشبهه في شيء. يتساءل، دون أن يبوح: هل أنا من نفس هذا البلد؟ هل وُلدت على الهامش لأبقى فيه؟ تلك السيارات الفارهة، والواجهات المزينة، والمؤسسات التي تستقبلك بابتسامة، ليست من عالمه ومن يوميات حياته.
يشعر ”ولد الدوار” بفارق كبير في التنمية، ويرى أن هناك درجتين من المواطنة: مواطن يعيش الحقوق ويستمتع بها، وآخر يراها عن بعد ويحفظها من مقررات التربية على المواطنة.
الأب في الجبل حين يرى أبناء مواطني ”الدرجة الأولى” يرتادون المدارس الخاصة، ويتعلمون اللغات في سن مبكرة، ويُحاطون بكل فرص النجاح، لا يحسدهم، لكنه يشعر بالحيف. يتمنى فقط ألا يضطر ابنه إلى المشي لساعات طويلة بين الوحل والمنحدرات، فقط ليصل إلى حجرة دراسية بلا نوافذ.
أما الأم، فهي حين ترى نساء العاصمة يجلسن في المقاهي، أو يمارسن الرياضة في الحدائق، تتذكر أنها تقطع كل يوم مسافات لجلب الماء أو الحطب. وحين تسمع عن مستشفيات تتوفر فيها خدمات التوليد والعناية المركزة، تنظر إلى رحمها بخوف، لأن مجرد التفكير في الولادة هو مخاطرة بحياتها. تعيش بصمت، لكن كل ما فيها يصرخ بأن المساواة ليست شعاراً، بل ضرورة وجودية.
وهنا بقي أن نشير إلى الكلمات الصادقة للملك محمد السادس في خطاب تخليد الذكرى الـ26 لعيد العرش، والتي قال فيها بشكل صريح وواضح: ”ما تزال هناك بعض المناطق، لا سيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية”.
ولم يتوقف الخطاب الملكي عند هذا الحد، بل استمر في التأكيد على ضرورة النهوض بوضعية العالم القروي، مؤكدا أن هذا الوضع ”لا يتماشى مع تصورنا لمغرب اليوم، ولا مع جهودنا في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية وتحقيق العدالة المجالية”، ليخلص إلى أنه ” لا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين”.
فمتى نستخلص الدروس من الخطاب الملكي وننصف “ولد الدوار” ؟