أمين السعيد يقدم وصفته لإصلاح اختلالات منظومة الانتخابات

 

كما هو معلوم، أن المنظومة الانتخابية في المغرب، عرفت العديد من الإصلاحات التي شملت القانون التنظيمي للأحزاب السياسية والقانون التنظيمي المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية والقوانين التنظيمية لمجلسي البرلمان والقوانين التنظيمية ذات الصلة بالجماعات الترابية، والقانون المتعلق باللوائح الانتخابية العامة والقانون المتعلق بمدونة الانتخابات وغيرها من التشريعات، بالإضافة إلى المراسيم والقرارات المنظمة للعملية الانتخابية.

وتجدر الإشارة إلى أن إصلاح المادة الانتخابية أضحى يشكل ظاهرة تطبع جميع المحطات الانتخابية التي أجريت خلال العقدين الماضيين، الشيء الذي يؤثر على الأمن القانوني للنصوص الانتخابية، غير أن هذه الإصلاحات كانت تطرح في لحظات متأخرة، وهو ما يضيق من هامش النقاش العمومي ويفوت فرصة بلورة قواعد قانونية رصينة تجيب عن الإشكالات العميقة التي تطرحها الممارسة العملية.

وتشكل الدعوة الملكية السامية بمناسبة الذكرى (26) لعيد العرش، منطلقا لفتح نقاش مفتوح حول إصلاح المنظومة الانتخابية من خلال مدة زمنية كافية بعيدة عن ضغط الحملة الانتخابية، مما يسمح بمشاورات جادة ومسؤولة.

إن الخاصية المميزة لإصلاح القوانين الانتخابية في المغرب هي منهجية التوافق الوطني بين الأحزاب السياسية التي تتوخى تحقيق الحد الأدنى من المطالب المعبر عنها، خاصة وأن تصورات الأحزاب السياسية هي في جوهرها، تصورات متناقضة ومختلفة؛ لكونها ترتبط بالرهانات السياسية، ذلك أن مطالب أحزاب الأغلبية تختلف في بعض الأحيان عن مطالب أحزاب المعارضة، وأن مطالب الأحزاب غير الممثلة في البرلمان تختلف عن مطالب الأحزاب الممثلة في البرلمان، وبالتالي فمنهجية التوافق الوطني تضمن إدماج وجهات النظر المتناقضة في صلب المادة الانتخابية.

أولا: المفهوم الجديد لدوائر “الموت” معقل “الكائنات الانتخابية” ومقبرة الكفاءات

هناك تحولات عميقة تطبع المشهد الانتخابي في العقدين الماضيين، ذلك أن تحولات الممارسة الانتخابية تخترق مفهوم ودلالة ومعنى دوائر “الموت” التي رسمتها الأدبيات الصحفية في سياق الدوائر الانتخابية التي كان يتبارى فيها زعماء الأحزاب السياسية ووزراء وقيادات لها رمزية سياسية وتاريخية ونضالية، خاصة تلك التي كانت تنتمي للأحزاب الوطنية.

إذا كانت الانتخابات التي أجريت في الثمانينات ونهاية التسعينات قدمت تعريفا لدوائر “الموت” المتسمة بخصوصية وفرادة وقوة المترشحين المتنافسين، فإن التقطيع الانتخابي الذي ولد سنة 2002 المبني على الاقتراع باللائحة (بأكبر البقايا) أنتج دوائر الموت التي تتميز بتعقد الجماعات التي تتألف منها وتشعب مساحتها ونموها الديمغرافي الكبير، وليس من خلال طبيعة المترشحين المتنافسين.

إن تحصين العملية الانتخابية من المال وتشجيع المشاركة الانتخابية وتحفيز النساء والشباب والكفاءات من أجل ولوج السياسة، لن يستقيم دون تعديل التقطيع الانتخابي، لا سيما  في ظل الدوائر المحلية التي تضم عددا غير قليل من الجماعات، ويمكن الإشارة على سبيل المثال إلى الدائرة الانتخابية الصويرة التي تتألف من 57 جماعة (خصص لها 4 مقاعد في مجلس النواب)، والدائرة الانتخابية سطات التي تتكون من 46 جماعة  (خصص لها 6 مقاعد في مجلس النواب)، والدائرة الانتخابية قلعة السراغنة التي تتألف من 43 جماعة  (خصص لها 4 مقاعد في مجلس النواب)، والدائرة الانتخابية الحوز التي تضم 39 جماعة (خصص لها 4 مقاعد في مجلس النواب) ، والدائرة الانتخابية تازة التي تتركب من 38 جماعة  (خصص لها 5 مقاعد في مجلس النواب)، والدائرة الانتخابية الحسيمة التي تتركب من 36 جماعة (خصص لها 4 مقاعد في مجلس النواب) ، والدائرة الانتخابية شيشاوة التي تضم 36 جماعة (خصص لها 4 مقاعد في مجلس النواب) ، والدائرة الانتخابية خريبكة التي تضم 30 جماعة (خصص لها 6 مقاعد في مجلس النواب) ، والدائرة الانتخابية الرشيدية التي تتركب من 29 جماعة (خصص لها 5 مقاعد في مجلس النواب)، والدائرة المحلية سيدي قاسم التي تتألف من 29 جماعة (خصص لها 5 مقاعد في مجلس النواب).

لقد انتبه المشرع لهذا الاقتراح حينما قسم بعض الأقاليم إلى دوائر انتخابية محلية، ويمكن الإشارة على سبيل المثال إلى تارودانت التي تضم 89 جماعة التي قسمت إلى دائرتين؛ الأولى تسمى بدائرة تارودانت الجنوبية التي تضم (37) جماعة، حيث خصص لها (3) مقاعد في مجلس النواب، أما الثانية تسمى دائرة تارودانت الشمالية التي تتألف من (52) جماعة، حيث خصص لها (3) مقاعد في مجلس النواب، ونفس التوجه ينطبق على  تاونات التي تتركب من  49 جماعة،  فالمشرع قسمها إلى الدائرة المحلية تاونات – تسية التي تضم (26) جماعة، أفرد لها (3) مقاعد في مجلس النواب، والدائرة  المحلية القرية – غفساي التي تتركب من (23) جماعة، مكنها المشرع من (3) مقاعد في مجلس النواب.

وفي ذات المنحى، يسجل بخصوص الخميسات التي تتألف من 35 جماعة، حيث قسمها المشرع إلى دائرتين، الأولى الدائرة المحلية الخميسات – أولماس التي تضم (15) جماعة، خصص لها المشرع (3) مقاعد في مجلس النواب، الثانية الدائرة المحلية تيفلت – الرماني التي تتركب من (20) جماعة، خصص لها المشرع المشرع (3) مقاعد في مجلس النواب، (بالرغم من التباين الكبير وغير المنصف بين الدائرة المحلية الخميسات – أولماس والدائرة المحلية تيفلت – الرماني).

وفي ذات التوجه، قسم المشرع أزيلال التي تضم 44 جماعة إلى دائرتين، الأولى الدائرة المحلية بزو – واويزغت التي تضم (27) جماعة، خصص لها المشرع (3) مقاعد في مجلس النواب، والثانية هي الدائرة المحلية أزيلال – دمنات التي تتألف من (17) جماعة، أفرد لها المشرع (3) مقاعد في مجلس النواب.

إن تقسيم المشرع لأقاليم تارودانت وأزيلال والخميسات وتاونات يكون قد وفر، وبالقدر المطلوب، الشروط التي تجعل تقسيم هذه الأقاليم مستجيب للعدالة الانتخابية، ومن ثم يعد توجها ذكيا ومحمودا يعكس حرص المشرع على ضمان التمثيلية والتخفيف من التفاوتات الصارخة داخل الدوائر المحلية الكبرى، ويقترح تعميم هذا التوجه على أقاليم أسفي وسطات وخريبكة وبني ملال والراشيدية وسيدي قاسم وتازة، ويمكن أن يمتد النقاش إلى الحوز والحسيمة وقلعة السراغنة…،

إن فتح النقاش حول تقسيم الدوائر المحلية التي تضم عددا كبيرا من الجماعات، ليس الهدف منه سحب البساط من تحت أرجل “الكائنات الانتخابية” التي تتغذى بشكل قوي من هذا النمط من الدوائر المحلية، وإنما الهدف منه بناء رؤية جدية تتوخى تشجيع انخراط الأحزاب السياسية وشبيباتها الحزبية ومنظماتها النسائية في نقاش عمومي جدي ومسؤول من شأنه تقريب وجهات النظر واقناعاها بإعادة النظر في هذه الدوائر “الملغومة” التي تنتعش من تناقضات الجماعات التي تتألف منها هذه الدوائر الانتخابية، حيث يسهل فيها استخدام المال ويصعب تغطيتها ومراقبتها نظرا لشاسعتها وكثرت متطلباتها التقنية واللوجستيكية والتنظيمية، وهي كلها عوائق لا تسمح بالتدافعات السياسية المبنية على البرامج الحزبية وتحد من  المشاركة في سياق مجتمعي مطبوع بالعزوف وبفقدان الثقة في السياسة.

ثانيا: ازدواجية الاقتراع باللائحة والاقتراع الفردي في مواجهة الاقتراع باللائحة “المقنع” بالفردي

شكل نظام الاقتراع بأسلوب اللائحة (المغلقة) بأكبر البقايا نقطة انعطاف غير مسبوقة في مسار المنظومة الانتخابية في المغرب، ذلك أن هذا التحول برز بعد تجربة حكومة التناوب، ويعد من الاقتراحات التي دافعت عنها بعض أحزاب المعارضة سابقا، بعد أن صاغ منظروها القواعد الناظمة لخبايا وأسرار وعيوب نظام الاقتراع الفردي على مدار قرابة 40 سنة من الممارسة الانتخابية، بيد أن الانتخابات التشريعية التي نظمت في سنة 2002 أظهرت بشكل جلي بأن ذكاء “الكائنات الانتخابية” و”الأعيان” استطاع أن يحول نظام الاقتراع باللائحة إلى نظام فردي “مقنع”، وكشفت الممارسة الانتخابية أن محطات 2003 و 2007 و 2009 و2011 و 2015 و 2016 و2021 ظلت وفية لكل الاعطاب الملتصقة بنظام الاقتراع الفردي، وبالتالي انتصرت “الكائنات الانتخابية” على البعد الإصلاحي لنظام الاقتراع باللائحة الطامح لمحاربة المال وتقوية الحزبية المحمولة على بساط البرامج الانتخابية.

فيما يتعلق بالانتخابات الجماعية، كان المشرع قبل سنة 2021 يستند على معيار الكثافة السكانية، وذلك من خلال اعتماد نظام الاقتراع باللائحة في الجماعات التي تساوي أو تفوق 35 ألف نسمة، مقابل اعتماد نظام الاقتراع الفردي في الجماعات التي تقل عن 35 ألف نسمة، حيث بلغ عدد الجماعات التي تنتخب بالاقتراع الفردي قرابة 1447 جماعة، مقابل قرابة 56 جماعة تنتخب بالاقتراع باللائحة، غير أنه مع الإصلاح الجزئي الذي أدخل في سنة 2021 الرامي إلى العودة التدريجية لنظام الاقتراع الفردي في مجالس الجماعات، عدل المشرع من معيار الكثافة السكانية عبر الرفع من المعدل إلى 50 ألف نسمة بدل 35 ألف نسمة، الأمر الذي يفهم منه، توسيع مجال الاقتراع الفردي خاصة في الجماعات الصغيرة والمتوسطة، وبالتالي أضحت 40 جماعة جديدة تنتخب بالاقتراع الفردي، ليتم الرفع من نسبة الجماعات التي تنتخب بالاقتراع الفردي إلى قرابة 1487 جماعة مقابل قرابة 16 جماعة فقط تنتخب بالاقتراع باللائحة، مما يدل على أن المشرع ربما يحاول ملاءمة العملية الانتخابية مع الخصوصية المغربية والثقافة المجتمعية، ومقتنع بضرورة العودة إلى نظام الاقتراع الفردي (بسلبياته) بغض النظر عن التفسيرات والتأويلات السياسية التي يمكن تقديمها والتي تتلخص في تضييق الخناق على بعض الأحزاب التي تعتمد على الهيئة الحزبية مقابل توسيع هامش الأحزاب التي تعتمد على الأشخاص.

ثالثا: الحاجة الملحة لتعديل التقطيع الانتخابي “المؤجل” لضمان العدالة داخل الدوائر الانتخابية المحلية

في ذات المنحى، يتجدد النقاش بخصوص إشكالية التقطيع الانتخابي، وهناك قولة مشهورة مفادها: “أعطيني التقطيع المعتمد سأعطيك الخريطة الانتخابية المتوقعة”، لذلك من المفترض مناقشة وتحليل إشكالية التقطيع الانتخابي بحسن نية من خلال إعادة النظر في قضية الفوارق الموجودة داخل الدوائر الانتخابية الناتجة عن عدم الانسجام بين عدد السكان وعدد المقاعد المخصصة داخل الدوائر الانتخابية، بالموازاة مع ذلك، هناك حاجة ملحة لبناء معايير جديدة في ضوء التقسيم الجهوي والإحصاء العام الأخير لسنة (2024) في أفق تحقيق الحد الأدنى من التجانس المجالي والسوسيولوجي والحفاظ على تمثيلية بعض الجماعات “المهيكلة” داخل الدوائر الانتخابية المحلية، ومن ثم صياغة هندسة متوازنة تضمن العدالة الانتخابية، خاصة في الدوائر الانتخابي المحلية “الكبرى” التي تتجاوز أربعة مقاعد فما فوق، كما هو الشأن بخصوص (الدائرة الانتخابية الرشيدية (5) مقاعد في مجلس النواب/ الدائرة الانتخابية تازة (5) مقاعد في مجلس النواب /الدائرة الانتخابية سيدي قاسم (5) مقاعد في مجلس النواب/الدائرة الانتخابية طنجة – أصيلة (5) مقاعد في مجلس النواب/الدائرة الانتخابية تطوان(5) مقاعد في مجلس النواب /الدائرة الانتخابية خريبكة (6) مقاعد في مجلس النواب/ الدائرة الانتخابية سطات (6) مقاعد في مجلس النواب/الدائرة الانتخابية بني ملال (6) مقاعد في مجلس النواب/الدائرة الانتخابية الجديدة (6) مقاعد في مجلس النواب/الدائرة الانتخابية أسفي (6) مقاعد في مجلس النواب/ الدائرة الانتخابية  مكناس(6) مقاعد في مجلس النواب.

وهكذا، لا يتعين التعامل مع هذه الإشكالية بمنطق قانوني صرف ينطلق من كون العضو المنتخب في مجلس النواب هو ممثل للأمة وللدائرة الانتخابية برمتها وليس للجماعة التي ينتمي إليها، بل يتطلب الأمر الفهم العميق والوعي الدقيق  للسياق الاجتماعي والغوص في الواقع الانتخابي الذي يجر في حمولته ترسبات القبلية التي تطبع جل الدوائر الانتخابية المحلية في المغرب، لذلك فإن إعادة النظر في الدوائر الانتخابية المحلية السابق ذكرها، من شأنه أن يخفف من ازدواجية التمثيل لبعض الجماعات مقابل غياب تمثيلية بعض الجماعات، الشيء الذي يؤثر على رمزيتها التمثيلية، حيث لوحظ على سبيل المثال، أن في بعض  الدوائر الانتخابية المحلية، قد تمثل نفس الجماعة بمقعدين من أحزاب مختلفة، في حين تفتقد جماعات (مدن/بلدية) لممثليها داخل الدائرة الانتخابية المحلية، وبالتالي، فمطلب التقسيم سينعكس بشكل إيجابي على ضمان الحد الأدنى من التمثيلية.

إن هذا الاقتراح لا يتمثل في مطلب التقسيم من أجل صناعة دوائر انتخابية محلية صغيرة أو من أجل الانتصار لأثار القبلية داخل الجماعات، وإنما يحرص على احترام  المبادئ الأساسية الثابتة التي يرتكز عليها الدستور في مجال ممارسة الحقوق السياسية، ومن بينها حرية الانتخاب والترشيح من خلال اقتراع عام قائم على أساس نفس القواعد والشروط، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، خاصة في الدوائر الانتخابية المحلية “الكبرى” التي يفترض فيها تقديس الرابطة الانتخابية، فبغض النظر عن كون النائب البرلماني -(عضو مجلس النواب)- ممثلا للأمة وليس للدائرة الانتخابية المحلية التي يمثلها، فإن نظرية التمثيل كما صاغها منظورو الديمقراطية النيابية تعتمد على العلاقة التعاقدية (السياسية) بين العضو المنتخب والدائرة المحلية التي يمثلها، وهو نفس التوجه الذي تعتمده حتى الديمقراطيات العريقة.

مغربيا، تطرح بقوة هذه الرابطة التعاقدية، خاصة في ظل تنامي الاحتجاجات المحلية، وكذا بعض المطالب التي تثار على المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، ويتجدد الطلب على العضو البرلماني الممثل (للجماعة/المدينة/البلدية) موضوع الاحتجاجات، ففي بعض الحالات تفتقد بعض (الجماعات/ المدن/البلديات) لممثلها داخل الدوائر الانتخابية المحلية.

رابعا: العتبة عائق أمام عقلنة الحقل الحزبي أم تقنية لتشجيع البلقنة الحزبية

يمكن الإشارة إلى واحدة من القضايا التي تثير خلافا قويا بين الأحزاب السياسية في المغرب، وهي قضية مؤشر العتبة، حيث تطالب الأحزاب السياسية التي توصف إعلاميا بـ “الصغرى” بإلغاء مؤشر العتبة في حين تطالب أحزب أخرى بالرفع من هذا المؤشر، غير أنه ينبغي التمييز بشكل دقيق بين التعددية الحزبية والتعددية السياسية، ذلك أن إلغاء مؤشر العتبة غالبا ما يعتمد في الأنظمة السياسية التي تعرف تعددية سياسية متباينة من حيث الهوية والمطالب والاختيارات السياسية، لكن في المقابل من ذلك، لن يؤثر الرفع من العتبة على الأصوات السياسية في المغرب، لأن الحقل الحزبي المغربي متقارب ويُجمع على الثوابت الدستورية، كما أنه لا يوجد اختلاف عميق بين الأحزاب الممثلة في البرلمان والأحزاب غير الممثلة في البرلمان، وبالتالي فالرفع من مؤشر العتبة في السياق المغربي، من شأنه أن يوحد من العروض والبرامج السياسية ويحد من ظاهرة البلقنة المبالغ فيها ويفرز أغلبيات منسجمة ومستقرة سواء داخل الأغلبية أو المعارضة.

هناك بعض الأصوات التي ترفض العتبة بحجة الحفاظ على تمثيلية بعض الحساسيات السياسية خاصة الصغيرة منها، وهو تحفظ مقبول في حالة وجود أحزاب صغرى لها تصورات ومرجعيات وسرديات جذرية مختلفة عن الأحزاب الممثلة في البرلمان، لذلك فجل الأحزاب السياسية الصغرى تقريبا هي مجرد امتداد أو نسخ مصغرة للأحزاب الكبرى، ويمكن العودة للبرامج الانتخابية والقوانين التأسيسية ولأدبيات هذه الأحزاب لدحض أو إبطال هذه الفرضية، وبالتالي فمطلب الرفع من مؤشر العتبة في ضوء الممارسة الحزبية لا يعني الإقصاء بقدر ما يعني الإدماج والعقلنة وترشيد الحقل الحزبي في أفق بناء أقطاب حزبية قوية ومستقلة.

وقريبا من إشكالية العتبة، لا بد من إعادة النقاش بشكل جدي حول القاسم الانتخابي، وتجنب تأثيراتها السلبية على تماسك الأحزاب السياسية خاصة في مجالس الجماعات الترابية، بما يضمن عدم تشتت الأصوات وبناء أغلبية منسجمة في مواجهة معارضة قوية.

خامسا: نحو ضمان المساواة بين الدوائر الانتخابية المحلية وفق معايير موضوعية

في ذات التوجه، هناك اختلالات عميقة تمس جوهر العدالة الانتخابية، وتكشف أن المعايير المعتمدة في توزيع المقاعد غير منسجمة مع الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية، مما يؤثر على مبدأ المساواة بين الأصوات، ويطرح عدة أسئلة حول عدالة هذه المنظومة، ويمكن الإشارة على سبيل المثال إلى الدوائر الانتخابية المحلية التي تتوفر على مقعدين (2) في مجلس النواب، وهي كالتالي: “مديونة، الحاحب، المضيق الفندق، اليوسفية، تاوريرت، كرسيف، مولاي عقوب، تيزنيت، كلميم، وادي الذهب، إفران، سيدي إفني، جرادة، طانطان، السمارة، بوجدور، آسا، أوسرد، طرفاية)، ولئن كانت هذه الدوائر الانتخابية المحلية تتمتع ببعض  الخصوصيات المحلية والجغرافية والتاريخية، فإن التحولات الديمغرافية، تستدعي على سبيل المثال الارتقاء بالدوائر المحلية لمديونة (قرابة 345.507 نسمة) والحاجب ( قرابة   276.098 ألف نسمة) إلى مصاف الدوائر الانتخابية التي تتمتع بثلاث (3) مقاعد في مجلس النواب.

وفيما يتعلق ببعض الدوائر الانتخابية التي تتوفر على (3) مقاعد في مجلس النواب، فيتعين إعادة النظر في المعايير المعتمدة في ضوء نتائج الإحصاء العام الأخير لسنة 2024، فعلى سبيل المثال، دائرتا النواصر (قرابة 665,135 ألف نسمة) وإنزكان أيت ملول (634.881 ألف نسمة) تتوفران على (3) مقاعد في مجلس النواب إسوة بدوائر فجيج (144.404 ألف نسمة)، الدريوش (قرابة 144.047 ألف نسمة) وبولمان (قرابة 205.377 ألف نسمة) ووزان (قرابة 247.538 ألف نسمة) وبركان (قرابة 283.538 ألف نسمة) وزاكورة (قرابة 285.482 ألف نسمة).

إن مطلب المساواة بين الدوائر الانتخابية المحلية، ينغي أن يحتكم لمعيار الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية وأن يراعي في حدود ضيقة السياق الاجتماعي والتاريخي وحتى النفسي لبعض الجماعات، وبالتالي يتعين الأخذ بعين الاعتبار التحولات الديمغرافية التي عرفتها العديد من الدوائر الانتخابية في العقد الأخير، وهندسة تقطيع انتخابي يضمن المساواة والعدالة في الأصوات ويسهم في إعادة التوازن في التمثيل.

سادسا: نحو مزيد من التدابير الإيجابية الاستثنائية “المؤقتة” والتحفيز المالي لتشجيع انخراط النخب الجديدة والتخفيف من العزوف

إن الرهان الكبير الذي يواجه المنظومة الانتخابية سواء القانونية والتنظيمية والتقنية، يتمثل في التخفيف من ظاهرة العزوف الانتخابي، خاصة في أوساط الشباب، لذلك يتعين بدل مجهود استثنائي وكبير لإعادة الثقة في السياسة، وتشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية، انطلاقا من إصلاح القوانين الانتخابية وتقوية الديمقراطية الحزبية وتقديم مؤشرات وإشارات إيجابية لاستقطاب الشباب.

لا يمكن التخفيف من ظاهرة العزوف الانتخابي بدون التفكير في صيغ جديدة لإدماج الشباب والنساء في الشأن العام، خاصة وأن السياق السياسي والسوسيولوجي وكذا الثقافي لا يسمح بولوج هذه الفئات إلى مجلسي البرلمان، لذلك يقترح في هذا الإطار على سبيل المثال، التفكير في صياغة بأحكام خاصة تمييزية استثنائية -(مؤقتة)- من شأنها تحقيق أهداف المشرع الدستوري، إما من خلال تخصيص نسبة لا تقل عن الثلث من الدوائر المحلية محجوزة لفائدة ترشيحات شبابية ونسائية، أو منح تمويل إضافي للأحزاب السياسية التي ترشح على رأس قوائمها كفاءات من الشباب والنساء، أو إحداث دوائر انتخابية محلية مخصصة للشباب والنساء، أو الاتفاق على سبيل المثال تخصيص دوائر انتخابية محلية يتبارى فيها حصريا الشباب والنساء فيما بينهم بهدف إبراز كفاءتهم وتعزيز تمثيليتهم أو التفكير في لائحة وطنية للكفاءات، وبشكل عام يقترح فتح نقاش وطني عمومي بشأن مستقبل التدابير الملائمة المحفزة الاستثنائية -(المؤقتة)- التي من شأنها توسيع وتعميم وتقوية مشاركة الكفاءات من الشباب والنساء في التنمية السياسية للبلاد.

وهكذا، فمصداقية الإصلاح الانتخابي معلقة على معالجة واحدة من أعطاب الممارسة الانتخابية، وهي معضلة استعمال المال لشراء الأصوات والتأثير على إرادة الناخبين، لذلك يتعين الحزم في تحصين العملية الانتخابية وتشديد العقوبات الزجرية وتقوية الملاحظة الانتخابية المستقلة والمحايدة وتشجيع المنتخبين على ثقافة الطعون القضائية وانخراط الاعلام في نزاهة العملية الانتخابية.

سابعا: مستقبل المنطومة الانتخابية في سياق عصر الذكاء الاصطناعي

اعتبارا للإشكالات التي واجهت الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول الأوروبية وبعض دول أمريكا اللاتينية، خاصة في سياق عصر الذكاء الاصطناعي وتأثيراته على التضليل وتزييف الحقائق وتشويه سمعة المتنافسين وخلق مناخ مقلق ومخيف حول التزوير المسبق للنتائج الانتخابات أو حول التدخل الأجنبي في الانتخابات، يتعين على المشرع وكذا الأحزاب السياسية أن تأخذ بعين الاعتبار تحديات الذكاء الاصطناعي من منظور الممارسة الانتخابية في المغرب.

تعد الرقمنة في الزمن الراهن إحدى المتطلبات الضرورية في المادة الانتخابية، الأمر الذي يفرض على الإدارة المشرفة على العملية الانتخابية إدماج البعد الرقمي في مسار العملية الانتخابية، كرقمنة التسجيل ورقمنة مكاتب التصويت ورقمنة التظلمات والشكايات والتفكير في وضع رقم خاص بالتبليغ على غرار الرقم الأخضر ورقمنة التنسيق بين مكاتب التصويت ورقمنة المحاضر ورقمنة تقنيات الفرز والاعلان على النتائج.

ويمكن في هذا السياق، الإشارة إلى دراسة (أنجزت في سنة 2021) اشتغلت على بعض دول الاتحاد الأوروبي (كرواتيا- الدانمارك- رومانيا- إستونيا- فلندا- لوكسومبورغ- لاتيفيا- مالطا)، حيث توقفت هذه الدراسة على تفكيك منسوب الرقمنة داخل المنظومة الانتخابية لهذه الدول التي امتدت إلى استخدام التكنولوجيا في جميع مراحل العملية الانتخابية (باستثناء التصويت الإلكتروني) من خلال التسجيل التلقائي الإلكتروني للمواطنين ونشر النتائج الأولية وصور المحاضر المكتوبة الخاصة بمكاتب الاقتراع ونشرها بالموقع الإلكتروني وغيرها، وهي تجارب مختلفة ومتباينة في تعاطيها الرقمنة، غير أنها تقريبا كلها تلتقي في رقمنة العلمية الانتخابية باستثناء دولة واحدة التي فتحت المجال  لرقمنة التصويت الإلكتروني، حيث تعد استونيا الدولة الوحيدة داخل الاتحاد الأوروبي التي تعتمد على التصويت الإلكتروني.

وبشكل عام، فإن رقمنة العملية الانتخابية، يتطلب تقوية الإدارة الانتخابية من خلال توفير الوسائل اللوجيستيكية والتقنية والمالية للإدارة الانتخابية وتحفيز الموارد البشرية المكلفة بهذا الورش الحيوي.

ثامنا: حالة التنافي بين الجانب المظلم والجانب الإيجابي

لعل القضية التي استأثرت أكثر باهتمام المشرع في العقد الأخير وتصدرت قائمة التعديلات في مختلف القوانين الانتخابية وغيرها من التشريعات سواء القوانين التنظيمية أو العادية المنظمة للمجالس والمؤسسات والهيئات الدستورية، هي قضية توسيع حالات التنافي أو ما يعرف بالحد من حالات الجمع بين المهام والمسؤوليات، لذلك فخضوع المؤسسات الدستورية وخاصة هيئات الحكامة للتوجه التشريعي الرامي لتوسيع حالات التنافي يعكس حرص المشرع على تقديس التخصص والانضباط والتفرغ المؤسساتي، غير أن تعميمها على المؤسسات التمثيلية قد يطرح بعض الإشكالات ويجعها من قضية خلافية، بين توجه مؤيد يرفع شعار دوران النخب وتوجه ثاني يؤمن بتقوية المؤسسات التمثيلية.

بين التوجه الداعم لتوسيع حالات التنافي والتوجه المعارض لها، يتعين الحرص على تقوية الجانب التمثيلي، فيصعب واقعيا الفصل بين تدبير رئاسة الجماعة والعضوية في أحد مجلسي البرلمان، وأن توسيع حالات التنافي من شأنه أن يحدث شرخا في الوظيفة التكاملية، لكن في المقابل من ذلك، يبقى باب الاجتهاد مفتوحا فيما يخص تمطيط حالات التنافي لتشمل عدم الجمع بين العضوية في مجلس الجماعة والعضوية في مجلس الإقليم أو العمالة والعضوية في مجلس الجهة وكذا العضوية في مجالس الغرف المهنية.

استنادا على ما تقدم، لابد من التنبيه إلى أن المسؤولية الكبيرة في ضمان نزاهة الانتخابات، تتحملها الأحزاب السياسية، حيث من المفروض أن تضع معايير دقيقة وصارمة لمنح التزكيات واختيار الكفاءات، حيث يلاحظ أن العديد من الأحزاب السياسية تعطي الأولوية “للكائنات” الانتخابية التي تنزل بثقلها المالي لكسب المقعد النيابي، مما يفرغ الإصلاحات الانتخابية من روحها ومضمونها وبعدها الدستوري، وبالتالي لا يمكن التعويل على النصوص القانونية بالرغم من أهميتها في تحيصن العملية الانتخابية إذا استمرت الأحزاب السياسية في تقديس “المقاعد تهم لو كانت بسواعد الكائنات الانتخابية” ومن تم فالأحزاب السياسية وخاصة قيادتها، تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والتاريخية في حماية المسار الديمقراطي من خلال إعطاء الأسبقية في التزكيات للكفاءات النظيفة القادرة على الانخراط في المسار الإصلاحي المغربي الذي تكرس مع وثيقة 2011.

ذ/ أمين السعيد: أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس

 

مقالات ذات صلة