أنوار يكتب: حزب الجالية المغربية المقيمة بالخارج بين الارتجال السياسي والاستحقاق الاستراتيجي

في ظلّ مشهد مدني سياسي متجدّد لطموحات مغاربة العالم، تطفو أحيانا مبادرات تُطرح بإلحاح وإصرار، كفكرة تأسيس حزب سياسي خاص بالجالية المغربية في الخارج، وهي فكرة سبق وأن طرحتها هيئة مغاربة الخارج سنة 2011، ورغم نبضها العاطفي المشروع، فإن تحويلها إلى واقع يتطلب أكثر من حماسة فردية أو رغبة في الظهور واستعراض القاموس الشعبوي، فهذا الطرح الجوهري يستدعي مساءلة عميقة تنطلق من امكانية هذا الصرح الحزبي أن ينشأ من فراغ نخبوي ومعرفي، ويُختزل في جهود أشخاص محدودي التجربة، ويُبنى على رؤية ضيقة تفتقر إلى الاستقراء الشمولي والاستناد الاستراتيجي؟ فالحقيقة التي لا لبس فيها هي أن تأسيس حزب سياسي ليس عملا خيريا أو مبادرة تطوعية عابرة، بل هو استحقاق دستوري جسيم، يتطلب بالضرورة أرضية فكرية ومشروعا مجتمعيا راسخا، بحيث لا يكفي أن يكون الهدف هو خدمة قضايا الجالية على اعتبار أن الحزب السياسي الناجح يُبنى على رؤية استراتيجية واضحة لمغاربة العالم، تُجيب عن أسئلة الهوية، الاندماج والانتماء والمشاركة الفاعلة في بناء الوطن الأم المملكة المغربية الشريفة، وفي مجتمعات الإقامة… كما أن هذه الرؤية يجب أن تنبثق من استقراء دقيق وشامل لطموحات وتحديات وتطلعات جميع شرائح الجالية المغربية المتنوعة، لا أن تعكس فقط تصوّرات مجموعة صغيرة، فأين هي الدراسات الميدانية؟ أين هي وثائق المشروع المُحكمة؟ تجدر الاشارة مرة اخرى الى أن تأسيس صرح حزبي يستوجب تدخل نخبة حاملة للمشروع وخبرة سياسية ملموسة لأن فكرة أن يُقاد مشروع حزبي طموح من قبل أشخاص قد لا يمتلكون خبرة سياسية أو تراكمات ميدانية في مجال الترافع والديبلوماسية الموازية، سيحول الفكرة لفشل مُحقّق لأن العمل السياسي، خاصة في سياق معقد كالشتات، يتطلب حنكة، احترافية، وإلماما عميقا بآليات العمل الحزبي، والعلاقات الدولية، والسياسات العمومية، والنسيج الاجتماعي المغربي الداخلي والخارجي، لكل ما سبق لا يمكن اختزال هذه المهمة في حماسة لحظية أو رغبة في الظهور الإعلامي، القيادة الحزبية تستلهم من تجارب سياسية ومدنية عميقة، لا من فراغ، علاوة على ذلك فإن المهمة الأساسية لأي حزب يطمح لتمثيل مغاربة العالم ليست مجرد الدفاع عنهم او كما قال أحد حاملي الفكرة “تلبية رغباتهم” رغم الرغبة لا علاقة لها بالحاحيات والتطلعات والطموحات، المهمة الأساسية إذن هي تأطيرهم سياسيا واجتماعيا وثقافيا، بما يضمن صياغة سياسات عمومية واضحة تخدم مصالحهم المشروعة في مجالات التعليم، الثقافة، الاستثمار، الحماية القنصلية، المشاركة السياسية بما في ذلك التصويت، وربطهم بوطنهم الأم، كما يعني أيضا تمثيلهم بفاعلية لدى المؤسسات المغربية ذات الصلة وفي محافل الدول المضيفة، هذا الدور المؤسساتي المتكامل والمندمج يتجاوز بكثير نطاق العمل الإنساني والتضامني النبيل، رغم أهميته، فالتجربة الحزبية السياسية الفاعلة لا تنبت من العدم، الأجدر بأي مبادرة جادة أن تنبثق عن حركة مدنية أو فكرية قوية تمتلك ورقة مذهبية تضع مبدأ الدفاع عن ثوابت ومقدسات المملكة ضمن اولويات خطواتها، حركة وهيئة موازية تكون قد راكمت خبرة في العمل الجمعوي، والدفاع عن الحقوق، وبناء الجسور بين أفراد الجالية ومع الوطن، وبلورت مواقف استراتيجية واضحة، هذا المسار التراكمي هو الضمانة لوجود قاعدة شعبية حقيقية ولرسالة سياسية متجذرة في الواقع، وليس مجرد شعارات عائمة، الشرعية تُكتسب بالعمل الميداني الملموس والتمثيل الحقيقي، لا بالإعلان فقط… فالمطلوب ايضا في عمق التجربة أن تحقق الانسجام مع الدستور وخدمة الصالح العام، بمعنى أن أي حزب يطمح للعمل في الفضاء السياسي المغربي حتى لو كان يستهدف الجالية، يجب أن يستوعب روح الدستور المغربي الذي يؤكد على قيم المشاركة والمواطنة والمساهمة في بناء الدولة، دوره ليس خدمة أغراض ضيقة أو فئوية، بل المساهمة في بناء مغرب واحد وموحد، قوي ومتماسك، داخل حدوده وخارجها وهو ما يفرض وعيا عميقا بالسياق الوطني العام وأولوياته، وقدرة على الانخراط فيه بشكل بنّاء….
فبدلا من الاندفاع وراء مشروع حزبي هش قد يزيد من تشتيت جهود الجالية ويُضعف صوتها، الأجدى هو توحيد الجهود ضمن منظمات المجتمع المدني القائمة وتقويتها وتطوير أدائها، بناء تحالفات موضوعية بين النخب الفكرية والاقتصادية والثقافية المغربية في الخارج لبلورة رؤية مشتركة، علاوة على العمل على تفعيل آليات التمثيل والمشاركة الموجودة دستوريا وقانونيا للجالية، والضغط من أجل تطويرها بغية استثمار الطاقات في بناء جسور المعرفة والتأثير مع المؤسسات المغربية الرسمية والأحزاب السياسية الفاعلة داخل تراب المملكة المغربية.
إن فكرة حزب الجالية وللجالية ليست مستحيلة، لكنها استحقاق كبير لا يحتمل الارتجال أو التبسيط، الموقف يتطلب أسسا معرفية متينة ونخبا حاملة للمشروع ذات خبرة وحنكة، المرحلة اذن تستوجب مشروعا مجتمعيا شموليا، وتراكما مدنيا وسياسيا حقيقيا، أي مسار آخر، يقوم على الرغبات الفردية والجهود غير المؤهلة والرؤى الضيقة، ليس فقط محكوما عليه بالفشل، بل قد يلحق ضررا بمصالح الجالية التي يُفترض خدمتها، فبناء صرح حزبي يستحق اسمه يستلزم أساسا صلبا، وليس مجرد رغبة في البناء.

أنوار قورية ـ دكتور في الاعلام والسياسات الدولية
خبير في الذكاء الترابي والحكامة الرقمية

مقالات ذات صلة