الدكتور مصطفى عزيز.. رجل الظل الذي جعل من الفعل صوتا للوطن

كان لي شرف لقاء الدكتور مصطفى عزيز في بيته بالعاصمة الفرنسية باريس. لم يكن اللقاء عاديا ولا عابرا، بل لحظة غنية بالمعرفة والذاكرة، فتحنا فيها باب النقاش حول قضايا سياسية وحقوقية وثقافية وإعلامية. ومنذ اللحظة الأولى، بدا واضحا أنني أمام شخصية استثنائية، موسوعة معرفية وسياسية ودبلوماسية وتاريخية، تتجسد فيها هدوء الحكيم وعمق المجرب.
في عالم يعلو فيه الصخب وتتصارع فيه الأضواء، يندر أن نجد شخصيات تختار العمل في صمت، بعيدا عن الأضواء والادعاء. غير أن هذه الفئة النادرة هي التي تترك الأثر الأعمق، لأنها تشتغل بذكاء وهدوء، وتضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبار. وفي هذا الصف النبيل يبرز اسم الدكتور مصطفى عزيز، المقيم في باريس، كرجل ظل اختار أن يجعل من الفعل خطابه الأبلغ، ومن حضوره الفكري والدبلوماسي وسيلة لخدمة القضايا الاستراتيجية للمغرب.
لقد جمع عزيز بين التكوين الرصين والخبرة العملية الواسعة؛ عمل داخل منظمات دولية كالأمم المتحدة، وألقى محاضرات وعروض في جامعات مرموقة بالولايات المتحدة وسويسرا، وشارك في منتديات دولية كبرى. هذه التجارب مكنته من فهم عميق لآليات صنع القرار العالمي، وصقلت قدرته على قراءة التحولات الجيوسياسية ورصد توازناتها الدقيقة. كما أتاح له مساره الطويل نسج شبكة علاقات واسعة مع رؤساء دول وكبار رجالات السياسة في أوروبا وأمريكا وإفريقيا والمشرق العربي، حتى صار بالنسبة لكثير منهم، مرجعا للاستشارة والتحليل، بفضل قدرته على قراءة التوازنات الجيوسياسية وفك خيوط العلاقات الدولية المعقدة.
ما يميز الرجل أكثر هو اختياره العمل في الظل، بعيداً عن ضوضاء المنابر. فهو يتقن فن “اللوبيينغ” بأسلوب يقوم على بناء الثقة وفتح قنوات الحوار، في إطار ما يمكن تسميته بـ”الدبلوماسية الناعمة”. وقد تحول منزله الباريسي إلى فضاء احتضن لقاءات جمعت سياسيين ودبلوماسيين ومفكرين وإعلاميين يبحثون عن قنوات غير رسمية للتشاور والتفاهم. وبفضل مكانته وعلاقاته، أصبح فاعلا غير رسمي في ملفات حساسة تهم المغرب، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية.
وفي حديثه، يؤكد عزيز أن جوهر النزاع لا يكمن في “البوليساريو” بحد ذاتها، وإنما في الجزائر التي توظف هذا الملف كورقة ضغط لإطالة أمد الخلاف وتعقيد الحلول وتعطيل مسار المغرب نحو الإقلاع الاقتصادي والديمقراطي. وبرأيه، فإن الحسم في هذه المعركة يمر عبر تعزيز الحضور الدولي للمغرب، وكسب المزيد من الحلفاء المؤثرين في مراكز القرار العالمي.
ورغم الحملات المنظمة التي استهدفت صورته ومكانته، ظل الدكتور مصطفى عزيز صلبا، محصنا بمصداقية راكمها عبر عقود من الزمن. بل إن تلك الاستهدافات لم تزده إلا عزيمة وإصرارا على المضي قدما، لأن حبه للوطن، كما يقول، أكبر من كل محاولات التشويش. فالوطن عنده ليس شعارا يرفع، بل التزام عملي راسخ بثوابته ومصالحه العليا. وهو يرى في المؤسسة الملكية الضامن الأكبر لوحدة المغرب واستقراره، ويدعو دائما إلى تقوية الجبهة الداخلية خلف جلالة الملك محمد السادس، باعتباره قائد الإصلاح والبناء المؤسساتي والديمقراطي.
مسار مصطفى عزيز السياسي والنضالي بدأ مبكرا في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث ارتبط بعلاقات وثيقة مع قادة كبار مثل مولاي عبد الله إبراهيم، الفقيه محمد البصري، وعبد الرحمان اليوسفي. هذه التجربة المبكرة صقلت وعيه وربطته بتاريخ الحركة الوطنية ومعاركها الكبرى من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة.
ومن موقعه الحقوقي، يؤكد مصطفى عزيز أن المغرب في حاجة إلى انفراج سياسي حقيقي بعد تجربة “هيئة الإنصاف والمصالحة”، عبر طي ملفات عالقة مثل حراك الريف، وفتح المجال أمام عودة آمنة لمغاربة العالم ممن ارتبطت اسماءهم بمواقف احتجاجية أو سياسية معارضة. في تقديره، هذه الخطوة لن تعزز فقط صورة “المغرب الحقوقي”، بل ستقطع الطريق على خصوم يستغلون هذه الورقة لتشويه الديناميات الإصلاحات الكبرى الجارية.
مؤخرا، أطلق مبادرة مدنية رائدة أسس من خلالها حركة “مغرب الغد”، التي جمعت بين مغاربة الداخل والخارج حول هدف واحد: الدفاع عن القضايا الوطنية، وعلى رأسها الوحدة الترابية، والتصدي للحملات العدائية الخارجية. وقد استطاعت هذه الحركة استقطاب نخبة من الأسماء الوازنة داخل وخارج المغرب التي رأت فيها صوتا صادقا وفضاء للتعبير عن انتمائها والتزامها.
وإدراكا منه لأهمية الإعلام، يأسف رئيس حركة مغرب الغد لغياب منابر وطنية قوية وقادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والتأثير في الرأي العام الدولي، ويرى أن المغرب بحاجة إلى إعلام متحرر من الحدود الضيقة، إعلام يواكب التحديات الكبرى، ويكون حاضرا في قلب دوائر صناعة القرار. فالمعركة اليوم، كما يؤكد، تجري بقدر كبير في ميدان الإعلام.
بهذا المسار الغني والمتعدد الأبعاد، يجسد الدكتور مصطفى عزيز صورة نادرة لرجل اختار أن يكون “السفير غير المعتمد” للمغرب؛ رجل ظل يعمل بصمت، لكن بصوت مسموع في كواليس السياسة والدبلوماسية الدولية. لم ينشغل بالأضواء ولا بهرجة المناصب، بل آمن بأن الوطنية الحقة لا تحتاج إلى صخب، وإنما إلى فعل صادق وملتزم. يوظف مصطفى عزيز خبرته الواسعة وشبكة علاقاته الممتدة في عواصم العالم لخدمة القضايا الكبرى للمغرب، ويصر على أن الوطن هو البوصلة التي لا يحيد عنها، مهما تنوعت الملفات وتشعبت القضايا.

إنه نموذج للرجل العملي الذي يراهن على الفعالية والنتائج بدل الاستعراض والشهرة. يدرك أن المعارك الحقيقية تحسم في دوائر القرار، وفي بناء التحالفات، وفي القدرة على كسب الثقة وفتح قنوات الحوار، أكثر مما تحسم في ضجيج المنابر. ومع ذلك، فصوته يظل واضحا حين يتعلق الأمر بثوابت البلاد ومصالحها العليا، لأنه يؤمن أن الظل لا يعني الغياب، كما أن الصمت لا يلغي الحضور، بل يمنحه عمقا وفاعلية أكبر.
بهذا المعنى، يقدم رئيس حركة مغرب الغد صورة مختلفة عن الفاعل السياسي والمدني والديبلوماسي؛ صورة المواطن-الدبلوماسي الذي لا يحمل صفة رسمية، لكنه يؤدي أدوارا لا تقل وزنا عن أي منصب رسمي، بل قد تتجاوزه أحيانا. فهو يجسد بإخلاص وهدوء جوهر الدبلوماسية الموازية التي تعمل على بناء الجسور، وفتح قنوات الحوار، وكسب الأصدقاء والشركاء للمغرب.
إنه بحق رجل ظل، لكن ظل قوي ومتين، يشكل حائط في وجه الخصومات والمناورات، ويعمل بذكاء وهدوء على تحصين الوطن من كل ما يهدد مصالحه. ظل يفتح أمام المغرب آفاقا جديدة في مساحات السياسة والدبلوماسية، ويمنحه حضورا أوسع وأكثر تأثيرا في الساحة الدولية.
إنه باختصار رجل الظل الذي جعل من الفعل صوتا للوطن.

د. مصطفى عنترة

كاتب صحافي

مقالات ذات صلة