الحوار الاجتماعي بالمغرب: أي مستقبل لتعاقد اجتماعي جديد؟

بقلم الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية
في زمن الأزمات المركبة، حين يتداخل الاقتصادي بالاجتماعي، وتتقاطع التحولات العالمية مع الانتظارات المحلية، تبرز الحاجة الماسة إلى ترسيخ آليات جديدة لتدبير التوازن المجتمعي. في طليعة هذه الآليات، ينهض الحوار الاجتماعي كأداة مركزية ليس فقط لتفادي الانفجارات، ولكن أيضًا لبناء تعاقد اجتماعي يليق بمغرب ما بعد دستور 2011، وما بعد النموذج التنموي الجديد. لكن، هل ما زال الحوار الاجتماعي في المغرب يحتفظ بوظيفته البنيوية، أم أضحى مجرد طقس موسمي تمتص به الدولة ضغط النقابات وتنفس به بعض التوترات؟
الحوار الاجتماعي في صيغته المثالية، يجب أن يكون تعبيرًا عن إرادة سياسية واعية بضرورة التوازن بين الكلفة الاجتماعية للإصلاح والكلفة السياسية للتأجيل. غير أن ما نراه على الأرض لا يبعث دائمًا على الاطمئنان. فكم من اتفاق تم توقيعه بشعارات براقة، لكنه لم يجد طريقه إلى التنفيذ؟ وكم من لجنة مشتركة شُكلت فقط لإفراغ التوتر اللحظي من مضمونه، لا لإيجاد حلول مستدامة؟ أليست هذه الدينامية الجزئية مؤشرًا على أزمة عميقة في الثقة، وعلى غياب آلية مؤسساتية ضامنة لمخرجات الحوار؟
الأزمة لا تكمن فقط في الالتزام، بل في طبيعة التفاوض ذاته. فهل نملك فعلًا ثقافة حوار سياسي واجتماعي تؤمن بالشراكة المتوازنة، أم أننا أمام مقاربة فوقية تضع الشغيلة والنقابات أمام معادلات مالية مغلقة مسبقًا؟ وما جدوى الجلوس إلى طاولة الحوار إذا كانت المخرجات مشروطة سلفًا بـ”خطوط حمراء” مالية لا تقبل المراجعة؟ أليس هذا اختزالًا لوظيفة النقابات ودور الدولة على السواء؟ وهل يعقل أن يتحول التفاوض إلى مجرد إدارة للمطالب عوض أن يكون مشروعًا لإعادة توزيع عادل للثروة؟
من جهة أخرى، كيف يمكن لحوار اجتماعي حقيقي أن يتحقق في ظل تشتت التمثيليات النقابية، وتناقض أولويات الفاعلين الاجتماعيين؟ الحكومة تسعى لضبط العجز، والنقابات تدافع عن الحقوق، والقطاع الخاص يطالب بالتحفيزات والإعفاءات. في خضم هذه المربعات المتداخلة، من يملك الجرأة على طرح السؤال المحوري: ما هو الثمن العادل للتنمية؟ ومن يدفع كلفته؟ وهل نحن بصدد إنتاج حلول توافقية تُراعي هشاشة الوضع الاجتماعي والقدرة المحدودة للمالية العمومية، أم نعيد إنتاج هدنات ظرفية لا تصمد أمام أول اختبار اجتماعي؟
ثم، من يمثل من داخل هذا الحوار؟ أليس من اللازم إعادة التفكير في التمثيلية نفسها؟ كيف يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية ونحن نستثني ملايين المواطنين في القطاع غير المهيكل، والعمال المستقلين، وفئات جديدة برزت مع الاقتصاد الرقمي؟ أين أصواتهم في النقاشات الكبرى؟ وهل هناك تفكير جدي في توسيع دائرة المشاركة الاجتماعية نحو نموذج أكثر شمولًا وإنصافًا؟ أم أن الحوار سيظل امتيازًا للمنظمين فقط، لا حقًا عامًا لكافة الفاعلين؟
بل أكثر من ذلك، كيف يمكن لحوار اجتماعي أن ينجح إذا لم يكن جزءًا من رؤية استراتيجية تتقاطع مع النموذج التنموي الجديد؟ هذا النموذج الذي لا يمكن أن يُختزل في تقارير مكتوبة أو أهداف مرقمة، بل ينبغي أن يتحول إلى ثقافة مؤسساتية قوامها الشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإشراك فعلي لا صوري للمواطنين وممثليهم الحقيقيين. فهل نحن بصدد التمهيد لهذا التحول البنيوي، أم أن الأمر لا يعدو كونه تجميلًا لمشهد اجتماعي على حافة التآكل؟