عبد الكبير أخشيشن.. حين يدافع نقيب الصحافيين عن المهنة قبل كل شيء

أثارني الحوار الذي أجراه الإعلامي الصديق حسن قديم مع نقيب الصحافيين المغاربة عبد الكبير أخشيشن في برنامج “نقاش في الميدان”، لما حمله من جرأة في الطرح وعمق في التناول لقضايا جوهرية تتعلق بمستقبل مهنة الصحافة ببلادنا.
لم يكن مجرد لقاء إعلامي عابر، بل كان مساحة للنقاش الجاد حول الترسانة القانونية التي تهم التنظيم الذاتي للصحافيين، وحول ما ينتظر هذه المهنة من رهانات وتحديات في ظل إرادة ملكية قوية لجعل الإعلام رافعة أساسية في البناء الديمقراطي والتنموي.
فالقضايا التي تناولها الحوار ليست تقنية ولا عابرة، بل ترتبط بعمق بصلب مشروعنا الديمقراطي، إذ لا يمكن الحديث عن بناء مؤسسات قوية ولا عن تنمية حقيقية دون صحافة حرة، مهنية، ومنظمة ذاتيا.
لقد توقف الحوار عند محطات مهمة، من أبرزها الحديث عن التنظيم الذاتي كخيار نضالي وتاريخي للصحافيين المغاربة، وتجربة ينبغي تقييمها بموضوعية، خصوصا في ضوء النجاحات التي حققتها بلدان عديدة اختارت هذا الطريق فتمكنت من تعزيز استقلالية صحافتها وحماية أخلاقيات المهنة. غير أن ما يطرح التساؤل، كما أكد النقيب، هو تغييب النقابة الوطنية للصحافة المغربية عن المشاورات المتعلقة بالقانون المؤطر للمجلس الوطني للصحافة، في وقت كان من المفترض أن تكون النقابة طرفا رئيسيا لا يمكن تجاوزه، بحكم تمثيليتها وشرعيتها وتجذرها التاريخي في الدفاع عن المهنة. وهذا الإقصاء يكشف عن تناقض صارخ بين الخطاب الرسمي الذي يشدد على الإصلاح في إطار المقاربة التشاركية والممارسة التي ما تزال رهينة عقلية التحكم والانفراد بالقرار. فهذا إقصاء لا يمكن أن يفهم إلا كتعبير عن عقلية الوصاية التي ما زالت تسكن بعض دوائر القرار، في وقت تتطلب فيه المرحلة شجاعة الانفتاح والإشراك والتوافق.
وما جعل الحوار أكثر قوة هو أن النقيب لم يكتف بالوصف أو التذمر، بل سمى الأمور بمسمياتها. تحدث عن محاولات التحكم التي تستهدف القطاع من جهات تسعى إلى تقييد استقلاليته، وحذر من خطورة إعادة إنتاج ممارسات تسعى إلى تحويل الصحافة من سلطة رابعة مستقلة إلى مجرد صدى لأجندات ضيقة. لكنه في الآن ذاته شدد على أن النقابة الوطنية للصحافة لن تقبل بهذا المنطق، وأنها ماضية في نضالها وبرامجها الاحتجاجية دفاعا عن حرية الإعلام والتعبير، بل وترك الباب مفتوحا أمام خيار التحكيم الملكي كضمانة لحسم الخلافات وملاذ لتصحيح المسار وحماية المهنة.
لكن ما شدني أكثر في هذا الحوار لم يكن فقط مضمون الأفكار، بل الأسلوب الذي قدمها به النقيب. فقد ظهر عبد الكبير أخشيشن بوجه المدافع الحقيقي عن قضايا المهنة، يمتلك قدرة ترافعية لافتة، يطرح أفكاره بلغة واثقة، سلسة وخطاب مقنع يستقطب الانتباه، ويعتمد الحجة والبرهان بدل الانفعال والمزايدة. كما بدا مطلعا على التجارب الدولية في مجال التنظيم الذاتي، وهو ما يمنحه قوة إضافية في صياغة مقترحات قابلة للتنفيذ. ثم إن نزاهته وإبتعاده عن الحسابات الضيقة والبحث عن الامتيازات جعلا خطابه أكثر صدقية، ورسخا صورته كقيادي مهني يضع مصلحة الصحافيين فوق كل اعتبار.
المتتبع لمسار النقابة الوطنية للصحافة المغربية يدرك أن النقيب أخشيشن يحاول جاهدا رسم ملامح جديدة لهذه الهيئة التاريخية، من خلال تكريس أفكار وممارسات تجعلها صوتا حقيقيا للمهنة، بعيدا عن الحسابات السياسية أو المصلحية. فهو يصر على احترام التعددية التي تميز الحقل الإعلامي، ويؤكد أن النقابة يجب أن تبقى وفية لدورها في الدفاع عن الصحافيين وعن حرية التعبير باعتبارها أحد أعمدة أي نظام ديمقراطي.
إن ما كشف عنه هذا الحوار هو أن الصحافة المغربية تقف اليوم على مفترق طرق حقيقي: فإما أن نرتقي إلى مستوى اللحظة، ونبني تنظيما ذاتيا قويا ومستقلا يشارك فيه الصحافيون بشكل فعلي ويمنحهم أدوات لحماية مهنتهم وتطويرها، وإما أن نواصل الدوران في حلقة مفرغة من القوانين الفوقية والقرارات التي لا تزيد سوى في تعميق أزمة الثقة. ولعل ما يضاعف من مرارة هذا الوضع أن دولا عديدة سبقتنا في هذا الورش، وجعلت من التنظيم الذاتي قاعدة صلبة لحرية الصحافة واستقلاليتها، بينما ما يزال بلدنا مترددا، يراوح مكانه بين الخطاب الإصلاحي والواقع المليء بالعراقيل.
من هنا، يبقى السؤال المطروح بإلحاح: هل تلتقط الدولة ومختلف الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين الرسائل الواضحة التي بعث بها نقيب الصحافيين، ويفتحون الباب أمام بناء تنظيم ذاتي حقيقي، يحصن المهنة ويعيد للصحافة المغربية مكانتها التي تستحقها؟ أم أم أننا سنظل نراوح مكاننا في ظل التجاذبات التي تنهك المهنة وتضعف دورها الحيوي في المجتمع؟
إن الجواب عن هذا السؤال لن يحدد فقط مستقبل الصحافة المغربية، بل سيحدد أيضا مآل مشروعنا الديمقراطي برمته، لأن صحافة بلا حرية ولا استقلالية لا يمكن أن تكون إلا مرآة مشوهة لواقع مأزوم.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي.
رابط الحوار:

مقالات ذات صلة