الاحتجاج في زمن الهدوء

في زاوية مقهى تطل على ساحةٍ لا تعرف الثورة إلا من خلال صورها الفوتوغرافية، كنتُ أحتسي قهوتي المسائية كمن يراقب التاريخ وهو يتثاءب. هاتفٌ في اليد، صفحةٌ فيسبوكية تعلن عن “وقفة احتجاجية ضخمة”، شبابٌ متحمس، شعاراتٌ مشتعلة، و”الآن الآن وليس غدًا”. قلت في نفسي: يا لغرابة المصادفة، أنا على بعد خطوات من هذا الحدث الجلل، فهل أنا في قلب العاصفة دون أن أدري؟
نهضتُ كمن يستجيب لنداء الفضول. في الطريق، كل شيء يوحي بأن البلاد بخير: المقاهي مكتظة، الباعة المتجولون يتناسلون من الأرصفة، الأطفال يركضون في فضاء اللعب كأنهم في إعلان تلفزيوني عن سعادة وطنية. لا شيء يوحي بثورة، إلا تلك الزاوية الصغيرة حيث تجمع عشرون شخصًا، نصفهم قاصرون، ورجال أمن بزي مدني يحيطون بهم كمن يراقب فرقة مسرحية تقدم عرضًا مرتجلًا بعنوان: “الاحتجاج في زمن الهدوء”.
النساء المعتادات على الجلوس في الساحة لم يغيرن عاداتهن، كأنهن يشاهدن حلقة من مسلسل مألوف، لا جديد فيه سوى أن الممثلين هذه المرة يرفعون لافتات بدل أكواب الشاي. الأطفال يصرخون في الأرجوحة، والاحتجاج يهمس في الزاوية، كأنه يخجل من نفسه.
هنا، في هذا المشهد السريالي، يتجلى المغرب كما هو: بلدٌ يبرع في صناعة الصورة، في تضخيم الحدث، في تحويل الهمس إلى صراخ على صفحات التواصل، ثم يعود إلى صمته الأنيق في الواقع. الإعلام يعلن عن زلزال، والميدان يكتفي برعشة خفيفة. كأننا في مسرح كبير، والجمهور يعرف أن العرض لن يتجاوز المشهد الأول.
أهذا احتجاج؟ أم بروفة؟ أم مجرد تمرين ديمقراطي في الهواء الطلق؟ لا أحد يعرف. لكن القهوة كانت لذيذة، رجعت إليها مسرعا لعل لازال بها بعض الدفء .
في مطلع الألفية، كنت أنجزتُ بحثًا حول التعبئة السياسية، في إطار وحدة العلوم السياسية، بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضا، تحت إشراف الأستاذ الجليل حسن رشيق، مستندًا إلى ما يُعرف بـ”نظرية الموارد”، التي تفترض أن نجاح أي حركة احتجاجية أو تعبئة جماهيرية تتطلب توفر مجموعة من الشروط الموضوعية والسياسية. من بين هذه الشروط: ضعف واضح في بنية النظام السياسي، تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية إلى درجة الانفجار، وجود أزمة سياسية خانقة تُفقد النظام تماسكه، أو تهديد خارجي قوي يربك الدولة ويضعف قدرتها على التحكم في زمام الأمور. إلى جانب ذلك، لا بد من وجود قادة وزعماء ملهمين، يتحملون تكاليف التعبئة على المستويات المادية والجسدية والمعنوية، ويقودون الجماهير برؤية واضحة ومسار منظم.
لكن هذه النظرية، حين تُسقط على الواقع المغربي المعاصر، وبخاصة على دينامية جيل “ز”، تبدو غير قابلة للتحقق في المدى المنظور. فالشروط الأساسية للتعبئة الفعالة غير متوفرة: النظام السياسي المغربي، رغم التحديات، جد قوي ولله الحمد والمنة، بل استطاع أن يحقق تراكماً مؤسساتياً وحقوقياً لا يُستهان به. كما أن الأوضاع الاجتماعية، وإن كانت تعاني من اختلالات، لا تبدو في حالة انهيار شامل، بل تشهد مشاريع تنموية متواصلة تحتاج فقط إلى جرعة معتبرة من الجدية والمعقول وكثير من العمل.
أما على مستوى القيادة، فجيل “ز” يفتقر إلى شخصيات ملهمة تتصدر المشهد وتتحمل التكاليف. بل إن ما يُلاحظ هو غياب شبه تام للقادة الحقيقيين، حيث يختبئ كثير منهم بشكل جبان، وراء حجاب الرقمنة، تاركين بضع شباب في الواجهة، يتحملون وحدهم تبعات الاحتجاج، وبعضهم سيُحكم عليه بعقوبات قاسية قد تصل إلى أكثر من عشرين سنة سجناً. هذا الغياب القيادي يُضعف مسار التعبئة، ويجعلها عرضة للتفكك، خاصة في ظل وجود تعبئة مضادة دينامية، تتقن فن التهدئة، وتستثمر في الاستباق المؤسساتي أكثر من القمع المباشر.
الإبداع في أساليب التعبئة كذلك يبدو محدودًا. فالحركات الاحتجاجية الحالية تفتقر إلى الابتكار في الوسائل، وتعتمد غالبًا على أساليب تقليدية لا تُحدث الأثر المطلوب، ولا تُربك النظام بما يكفي لفتح مسارات تفاوض أو تغيير. في المقابل، الدولة المغربية تُراكم الإنجازات في مجالات متعددة، وتُظهر قدرة على امتصاص الصدمات، ما يجعل من الصعب على أي حركة غير منظمة أن تُحدث تحولًا جذريًا.
في ضوء ذلك، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن في الصراخ من خلف الشاشات، بل في بناء مسارات واقعية للتغيير، تستند إلى العمل الجاد، والانخراط في المشاريع التنموية، وتطوير أدوات التعبئة بشكل مسؤول. المغرب لا يحتاج إلى ثورة، بل إلى يقظة جماعية، وإلى جيل يؤمن بأن التغيير لا يُصنع بالضجيج، بل بالعمل، وبالقدرة على تحويل الغضب إلى مشروع، والاحتجاج إلى اقتراح.
محمد خياري