الأزمي يكتب: نقاش استدامة المالية العمومية وسنة الانطلاق..تفاعلا مع عرض وزير الميزانية؟

 

 

نظمت الأغلبية الحكومية يوم الثلاثاء 28 ماي ندوة حول موضوع “استدامة المالية العمومية لتنزيل ورش الحماية الاجتماعية” أطرها السيد فوزي لقجع الوزير المكلف بالميزانية، وهي مبادرة تستحق التنويه وإن كانت تبدو جاءت للرد على النقاش الذي راج بشكل قوي في الآونة الأخيرة حول هذا الموضوع، والذي يعود الفضل فيه بكل موضوعية وبالأساس لبعض أحزاب المعارضة وبالدرجة الأولى لحزب العدالة والتنمية، الذي كان سباقا للتنبيه إلى الإقصاء والاختلالات التي ترافق تنزيل ورش تعميم الحماية الاجتماعية ولطرح سؤال استدامة المالية العمومية بالنظر للتحملات والنفقات التي ألزمت بها هذه الحكومة المالية العمومية وما يرافق ذلك من أسئلة مشروعة حول القدرة على تمويلها مع تحقيق هدف ضبط مستوى دين الخزينة ونسبة عجز الميزانية، وذلك من باب الواجب والمسؤولية لأننا نعتبر أن هذا الموضوع مهم واستراتيجي ويكتسي أهمية بالغة بالنسبة للدولة وللمجتمع لكونه يجمع بين أمرين متكاملين وضروريين ويسند بعضهما البعض.
وهنا، لابد من التأكيد في البداية على أن هذا النقاش انطلاقا من الأرقام والمعطيات التي توفرها المؤسسات والتقارير الرسمية ومع مراعاة واستحضار الواقع اليومي المعيش من خلال ما تعبر عنه شكاوى ومعاناة المواطنين والاستماع إلى صوت الناس هو النقاش الذي تفتقده للأسف ساحتنا السياسية، وهو للأسف مغيب بشكل فظيع عن إعلامنا العمومي، وهو النقاش الذي ينبغي أن نعتز به ونثمنه لا أن نضجر منه أو أن نسفهه.
ثم، لا بد من التأكيد في خضم هذا النقاش على أن لا أحد يملك الحقيقة ولا أحد يحتكر الخوف والحرص على المصلحة الوطنية، لذا فإن محاولة لجم المعارضة بدعوى أن هذا النقاش قد يكون له أثر على سمعة الوطن لدى المؤسسات المالية الدولية وهيئات التنقيط هي في الحقيقة حجة الضعيف، فضلا عن أنها جهل أو تجاهل بكون هذه المؤسسات والهيئات هي على علم دقيق بنقط قوة وضعف الاقتصاد الوطني والمالية العمومية وهذا هو شغلها، وأنه وعكس ما تلمح له الحكومة فإن الانتقادات التي توجهها المعارضة وتنبيهاتها وحرصها على نجاح ورش تعميم الحماية الاجتماعية وتصحيح اختلالات تنزيله، وعلى استدامة المالية العمومية وهي نقطة قوة كبيرة تحسب لبلدنا وتقدرها عاليا هذه المؤسسات والهيئات، على عكس موقفها من البلدان التي تغطي بتواطؤ بين الأغلبية والمعارضة، إن وجدت، حقيقة وضعها الاقتصادي والمالي وتسعى إلى تجميل مؤشراتها الاقتصادية والمالية ضدا على الحقيقة.
بعد هذه الملاحظات الأولية، لن أعود للنقاش الصحي والجدي بخصوص عدد المستفيدين سابقا من نظام المساعدة الطبية “راميد” لأنني بكل بساطة أعتبر أن ما جاء به السيد الوزير ليس مقنعا وأن هناك إقصاء حقيقيا تدل عليه الأرقام ويدعمه الواقع اليومي للمواطنين المقصيين من التغطية الصحية، وهو ما يتطلب من الحكومة المبادرة لتصحيح هذا الوضع -عوض التنابز والتلاعب بالأرقام- وهذا هو المقصود والهدف الأول والأخير من هذا النقاش، لكن ما يهمني هذه المرة هو ما قدمه الوزير بخصوص استدامة المالية العمومية وتركيزه على الماضي، لأن ما صرح به غير دقيق نهائيا ويثير العديد من الملاحظات.
أولا- هناك خطأ ارتكبه السيد الوزير ويمكن للجميع التأكد منه ويخص ما سماه “سنة الانطلاق” أو “المنطلقات”، حيث من المعلوم أن سنة الانطلاق لحكومة أخنوش هي سنة 2021 وليس سنة 2020، وأن نسبة المديونية التي انطلقت منها هذه الحكومة سنة 2021 هي 69,5% من الناتج الداخلي الخام (وليس 72,2% المرتبطة بسنة 2020)؛ ونسبة عجز الميزانية التي انطلقت منها هذه الحكومة سنة 2021 هي 5,5% من الناتج الداخلي الخام (وليس 7,1% المرتبطة بسنة 2020)، وأنه من غير المعقول أن لا يقدم الوزير المعطيات المرتبطة بسنة 2021، وأن يتوقف في المبيان الذي قدمه حول تطور المديونية وعجز الميزانية على الأرقام بين سنة 2010 وسنة 2020، وهذا أمر غير مقبول لا علميا ولا سياسيا ولا دستوريا، باعتبار أن هذه الحكومة لم تنصب رسميا إلا في أكتوبر 2021 ولا علاقة لها بقانون المالية لسنة 2021 الذي أعدته وقدمته ونفذته الحكومة السابقة، وهي إذا بذلك سنة الانطلاق الحقيقية لحكومة أخنوش وليس سنة 2020.
ثانيا- هناك خطأ كبير ثان ارتكبه السيد الوزير في طريقة تقديمه وقراءته للأرقام المرتبطة بسنة 2020، إذ إن سنة 2020 التي تنتقدها الحكومة الحالية وتعتبر أن الحكومة التي سبقتها سببت في رفع المديونية خلالها إلى 72,2% ورفعت نسبة عجز الميزانية إلى 7,1%، لا يخفى على أحد أنها سنة استثنائية بكل المقاييس في تاريخ البشرية جمعاء، وهي سنة ما سمي بالإغلاق العام والشامل، وعلى هذه الحكومة وعلى السيد الوزير أن يفتخروا بكون بلدنا بقيادة جلالة الملك بادرت إلى اتخاذ التدابير المالية المكلفة واللازمة التي حافظت على الاستقرار الاجتماعي وأنجحت الحجر الصحي وأنقذت الاقتصاد الوطني وحافظت على الشركات والمقاولات الوطنية وعمالها ووفرت الدعم المباشر لملايين الأسر لتجاوز تلك المرحلة الصعبة ووفرت التمويل للبرنامج الضخم لإنعاش الاقتصاد الوطني ما بعد كورونا، ثم علينا أن نفتخر أنه وفي الوقت الذي ارتفعت فيه المديونية في العالم وبما فيها في الدول الكبرى بأزيد من %20 نجد أن بلادنا اتخذت ما يلزم من تدابير لكن بشكل معقول حيث لم ترتفع المديونية سوى ب12%، ثم إنه مباشرة بعد ذلك وبدءا من سنة 2021 اتخذت الحكومة الإجراءات للعودة التدريجية لضبط المديونية وعجز الميزانية، وهو المنحنى التنازلي الذي شهدته سنة الانطلاق للحكومة الحالية.
ثالثا- شدد الوزير على كون هذه الأرقام لا تقبل النقاش لكونها أرقام ختم عليها صندوق النقد الدولي ومؤسسات التنقيط، لكنه نسي أن يشير إلى أن صندوق النقد الدولي قدم نفس الملاحظات التي نبه إليها حزب العدالة والتنمية بخصوص أسلوب الحكومة في تمويل مختلف النفقات المتزايدة عبر ما يسمى “التمويلات المبتكرة”، أو بتعبير أصح المديونية والعجز المقنعين، ومن خلال استعمال فائض الحسابات الخصوصية للخزينة وهو رقم غير مسبوق واستثنائي (17 مليار درهم) وناجم أساسا عن موارد الحساب الخاص للتضامن المخصص لتدبير الآثار المترتبة عن الزلزال، حيث أشار المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على إثر اختتام مشاورات المادة الرابعة لعام 2024 مع المغرب إلى أن سبب تراجع عجز المالية العامة إلى 4,4% من الناتج الداخلي الخام في نهاية عام 2023، “يعكس التحسن في إيرادات المالية العامة (بفضل دور صندوق الزلزال في دعم الإيرادات غير الضريبية) الذي فاق التوقعات وتجاوز الزيادة غير المخطط لها في مستويات الإنفاق.”، وأوصى المديرون التنفيذيون للصندوق الحكومة ب”…مواصلة تعزيز إطار المالية العامة متوسط الأجل، بما في ذلك من خلال الإعلان عن انعكاسات الشراكات بين القطاعين العام والخاص وتعبئة الأصول الحقيقية الحكومية على الميزانية، …”
وهو ما يعني أن الصندوق ينبه من جهة إلى أن تغطية النفقات غير المتوقعة في 2023 جاء بفضل الموارد الاستثنائية التي تم تحصيلها في إطار الحساب الخاص للتضامن المخصص لتدبير الآثار المترتبة عن الزلزال، وهي للتأكيد موارد لن تبقى رهن إشارة الميزانية العامة وسيتم تحويلها بمقتضى القانون إلى وكالة تنمية الأطلس الكبير لتمويل مشاريع إعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة من الزلزال، كما نبه الصندوق إلى المخاطر المرتبطة بالاعتماد على الشراكة بين القطاعين والخاص وتفويت الأصول العمومية وضرورة أخذ انعكاساتها بالحسبان على استدامة المالية العمومية، باعتبارها موارد استثنائية وغير مستدامة.
لذا، فإن النقاش حول استدامة المالية العمومية وحول الاختلالات التي ترافق تنزيل مشروع تعميم الحماية الاجتماعية لم يحسم ومازال قائما ومطروحا وبحدة ويتطلب من الحكومة وأغلبيتها تجاوز السردية الأحادية والقبول بالنقاش من خلال بسط الرأي والرأي الآخر وعليها أن لا ترتاح وأن لا تستكين لهذه السردية، وأن تتفاعل بتواضع وبمسؤولية مع ملاحظات المعارضة لأن مسؤولية الحفاظ على توازن المالية العمومية وبمقتضى الدستور هي أمر يعني البرلمان (أغلبية ومعارضة) والحكومة، كما أن الحرص على استفادة كل المواطنين من البرامج العمومية دون إقصاء أو تمييز يعنيهما معا.

مقالات ذات صلة