توقيفات الأطر الصحية بأكادير .. عندما يتحول التوقيف إلى بديل عن الإصلاح

تعيش الشغيلة الصحية بكل فئاتها على امتداد التراب الوطني و خاصة بجهة سوس ماسة و مدينة أكادير على وقع توتر غير مسبوق، بعد القرار الصادر عن وزارة الصحة والحماية الاجتماعية القاضي بتوقيف عدد من الأطر الصحية و هم 04 ممرضي التخدير و الإنعاش و 07 قابلات و 02 أخصائيين في التخدير و الإنعاش و 03 أخصائيين في أمراض النساء و التوليد من ضمنهم استاذ في كلية الطب احترازياً عن العمل في انتظار نهاية التحقيقات القضائية، و ذلك في أعقاب 8 حالات الوفيات للنساء الحوامل المسجلة بمستشفى الحسن الثاني. قرارٌ أثار ردود فعل قوية داخل الأوساط المهنية والنقابية، لما حمله من دلالات تتجاوز حدود المساءلة الإدارية، إلى سؤالٍ أعمق يتعلق بطريقة تدبير الأزمات داخل قطاع حيوي يُفترض أن تُبنى قراراته على التبصر والإنصاف لا على ردود الأفعال.

من المؤكد أن أي وفاة داخل مؤسسة صحية تستوجب التحقيق الدقيق والمسؤول، احتراماً لحق الأسر في معرفة الحقيقة وضماناً لسلامة المنظومة. غير أن ما يثير القلق هو اختيار أقصر الطرق مرة أخرى وأكثرها تكلفة، ألا و هي توقيف مهنيي الصحة و قطع ارزاقهم، قبل أن تنضج مساطر البحث وتستكمل حلقات المحاسبة المؤسساتية. وكأن الهدف ليس الوصول إلى الحقيقة بقدر ما هو البحث عن تهدئة الرأي العام عبر قرارات تبدو صارمة في ظاهرها، لكنها تخفي هشاشة المنظومة وارتباكها.

الواقع أن الأوضاع الكارثية التي يعيشها المستشفى الجهوي الحسن الثاني ليست خافية على أحد. فقد سبق للمكتب الجهوي للنقابة الوطنية للصحة العمومية بجهة سوس ماسة أن وجه، في شهر ماي الماضي، نداء استغاثيا إلى الوزارة، محذرا من تدهور البنية التحتية، ونقص التجهيزات، والخصاص الحاد في الموارد البشرية. تحذيرات موثقة وموثوقة، لم تلق للأسف التجاوب المطلوب، رغم تنظيم فيدراليي الصحة لوقفة حاشدة شهر يونيو المنصرم و تواصل بياناتهم النقابية الى وقوع الكارثة، لتعود اليوم المأساة نفسها في شكل آخر، لكن بعناوين أكثر قسوة على الأطر الصحية التي تواصل العمل رغم كل الظروف المستحيلة.

ثم إن وزير الصحة نفسه لم يتردد، في أكثر من مناسبة رسمية، في الإقرار بوجود أعطاب هيكلية داخل المنظومة الصحية، سواء على مستوى الحكامة أو التدبير أو غياب الكفاءة في التسيير. وهي اعترافات مهمة، لكنها تطرح سؤالاً مشروعاً: إذا كان الخلل بنيوياً كما يصرح به الوزير، فكيف تُحمّل نتائجه لأطر ميدانية تشتغل في بيئة غير مؤهلة وتحت ضغط متواصل؟

فمثلا التقرير الذي نشره مركز الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان حول السياسة الصحية، يؤكد أن هشاشة العدالة المجالية في تقديم الخدمات الصحية. إذ أن ثمان جهات تتوفر على مستشفى واحد فقط، في حين تتوفر جهتان على مستشفىين، وجهتان على ثلاثة، ما يعكس غياب رؤية شاملة لتوزيع البنيات الاستشفائية. بل إن الجهات المستحدثة بعد 2011، مثل طنجة-الحسيمة وفاس-مكناس، حظيت بتسهيلات من البنيات التحتية، في حين بقيت جهة الرباط-سلا-القنيطرة مكتفية بمستشفى جهوي واحد رغم دمج جهات إضافية ضمنها.

ولا يقتصر التفاوت على البنيات، بل يمتد إلى الموارد البشرية، فثلث الأطباء يتركزون في جهتين فقط، البيضاء-سطات والرباط-سلا-القنيطرة، بينما تستحوذ أربع جهات على نحو 68٪ من الأطباء، ما يعكس تركيزاً صارخاً على حساب بقية الجهات. أما عدد الأسرة، فيتراوح بين أدنى معدل 2,61 سريراً لكل 10 آلاف مواطن في جهة الرباط-سلا-القنيطرة، وأعلى معدل 13,6 سريراً في جهة العيون-الساقية الحمراء، في حين يصل المعدل العالمي إلى 28,9 سريراً لكل 10 آلاف نسمة. حتى الخدمات الطبية الاستعجالية، التي يفترض أن تكون الوجهة الأولى للمريض، تتوزع بشكل غير متوازن: 138 وحدة بسعة 992 سريراً للمستعجلات و557 سريراً للإنعاش، موزعة بتراب غير عادل بين الجهات.

اما الفئات الواسعة من مهنيي الصحة فهي تمارس اليوم مهامها في غياب مصنف للكفاءات والمهن الصحية، وفي ظل فراغ تشريعي وتنظيمي طال أمده، إذ لم تُفعّل بعد المراسيم التطبيقية لقوانين المزاولة التمريضية الصادرة منذ سنة 2013، كما لم تُحدث الهيئات المهنية لمختلف فئات الممرضين وتقنيي الصحة ومساعدي العلاج. فكيف يمكن مساءلة مهنيين عن نتائج عملهم في منظومة لا تضمن لهم حتى الإطار القانوني الواضح لمهامهم وصلاحياتهم؟

إن اللجوء إلى التوقيفات الاحترازية، قبل تحديد المسؤوليات القضائية الدقيقة، يضعف ثقة الأطر الصحية في مؤسساتهم، ويفتح الباب أمام موجات جديدة من الإحباط والهجرة، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعزيز جبهة العاملين في قطاع الصحة، لا إلى إضعافها بقرارات انفعالية. فالمحاسبة لا يمكن أن تختزل في طبيب مناوب أو ممرضة منهكة، بل تبدأ من محاكمة السياسات العمومية التي تراكمت إخفاقاتها لعقود.

لقد حان الوقت لتجاوز سياسة “البحث عن كبش فداء”، نحو إصلاح مؤسساتي شجاع يعالج أصل الداء لا أعراضه. فالقضية ليست في من يوقف، بل في من يحاسب فعلاً. ومن المؤسف أن تتحول القرارات التأديبية إلى واجهة لإخفاء فشل السياسات و القرارات الحكومية في مجال الصحة ، بدل أن تكون أداة لتحقيق العدالة والمساءلة الحقيقية.

و في نهاية المطاف، لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح في ظل بيئة يسودها الخوف وانعدام الأمان المهني. وإذا كانت الحكومة عازمة حقاً على تصحيح المسار، فإن البداية الحقيقية لا تكون بتوقيف الأطر، بل بتمكينهم من حقوقهم و صوت مكتسباتهم و الرفع من اعدادهم و تأهيلهم المستمر، و تحفيزهم وحمايتهم، وتوفير شروط العمل الكريم لهم. فإصلاح الصحة لا يبدأ من تعليق الأسماء، بل من مساءلة السياسات.

بقلم: حمزة ابراهيمي

مقالات ذات صلة