طبيعة جمهور كرة القدم… قراءة سياسية
يشير عدد من الباحثين في العلوم الاجتماعية إلى التشابه بين جمهور كرة القدم، والجمهور الديني، والجمهور السياسي. ويعتمد أصحاب وجهة النظر هذه إلى أطروحات باتت من كلاسيكيات علم النفس الاجتماعي، تقف في مقدمتها أطروحة غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجيا الجماهير» الذي حلل فيه السلوك الجمعي وظواهره في الحياة الإنسانية. كرة القدم التي انتشرت عالميا نهاية القرن التاسع عشر، باتت اليوم اللعبة الأكثر شعبية في العالم، ويشاهد مبارياتها الحية أو المنقولة في وسائل الإعلام مليارات المشاهدين، وتحظى ببطولات متعددة المستويات، بدءا من بطولات الفرق الشعبية في أحياء المدن الفقيرة، وصولا إلى البطولات العالمية مثل كأس العالم وبطولات القارات التي نشهد من ضمنها مباريات كأس آسيا وكأس افريقيا هذه الأيام. في كل مباريات كرة القدم مهما كانت متواضعة أو عالية المستوى والأهمية، هناك جمهور يشاهد ويتفاعل مع المباراة، ويلعب أدوارا رياضية وتجارية، وحتى سياسية واجتماعية، وهنا سأحاول أن أسلط إضاءات على هذا الجانب المهم من جوانب كرة القدم التي أصبحت كنيتها (الساحرة المستديرة).
الباحثون في علم النفس الاجتماعي، يرون حالة جمهور كرة القدم من منظور أطروحات نظرية الهوية، حيث يتماهى الفرد مع مجموعة ويذوب فيها، ويصبح جزءا لا يتجزأ من كتلة متراصة اسمها (مشجعو الفريق)، ونتيجة هذا التراص ينتج الكثير من السلوكيات التي قد تكون غير منطقية، أو غير مقبولة من الأفراد في حال فكروا بها كونهم أفرادا.
أمريكا اللاتينية، يعتبرها الكثيرون اليوم قارة كرة القدم، والشعوب اللاتينية تعيش حياتها وفيها الكثير من هوامش وظلال كرة القدم، حتى إن الكثير من الكتاب اللاتينيين الكبار كتبوا عن كرة القدم، مثال ذلك ما كتبه ماريو فارغاس يوسا الروائي البيروفي الحائز جائزة نوبل، «يمكن أن تكون المباراة روايةً طبعاً، فلها بداية، وتطورات، ولحظات من الشد العاطفي بنهايات سعيدة تارة، ومأساوية تارة. النقد في كرة القدم آلة هائلة لصنع الأساطير، ينبوع دافق من اللاواقعية يغذي الشهية الخيالية لأعداد كبيرة». أما الكاتب الأورغوايي إدواردو غاليانو، فقدم وصفا مهما للمشجع المتعصب في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» إذ يقول: «المتعصب هو المشجع في مشفى المجانين. فنزوة رفض ما هو جلي، أغرقت العقل وكل ما يشبهه». ويضيف،» يصل المتعصب إلى الملعب ملتحفا راية ناديه، ووجهه مطلي بألوان القميص المعبود، مسلحاً بأدوات مقعقعة وحادة، وبينما هو في الطريق يكون قد بدأ بإثارة الكثير من الصخب والشجار. يتحول الخائف إلى مخيف، والمهان إلى مهين للآخرين. فيكون لدى المتعصب الكثير من الثارات حين يتحرر يوما كل أسبوع. إنه ينظر إلى المباراة وهو في حالة الصرع تلك، ولكنه لا يراها، فما يهمه هو المدرجات، لأن ميدان معركته على المدرجات. ومجرد وجود مشجع للنادي الآخر يشكل استفزازاً لا يمكن للمتعصب أن يتقبله. الخير ليس عنيفاً، ولكن الشر يجبره على ذلك. والعدو دائماً مذنب، ويستحق ليّ عنقه. ولا يمكن للمتعصب أن يسهو، لأن العدو يترصد في كل مكان. فقد يكون ضمن المشاهدين الصامتين أيضاً، وقد تصل به الوقاحة في أي لحظة إلى إبداء رأيه بأن فريق الخصم يلعب لعباً صحيحاً، وعندئذ يحصل على ما يستحقه». وعلى الرغم من أن الألعاب الرياضية تعد سلوكا تهذيبيا متحضرا، إلا أن تحولات جمهور كرة القدم من الاستمتاع إلى التعصب والراديكالية، تسببت في الكثير من الكوارث المؤسفة، وقد حدث ذلك في بعض دول أوروبا التي يلتزم فيها المواطنون عادة بالأنظمة والقوانين، لكن جمهور كرة القدم ونتيجة الحماس والإفراط في تناول الكحول قبل وأثناء المباريات، يتحول إلى السلوك الجمعي العدواني، مثال ذلك ما حدث في كارثة ملعب هيسل في بلجيكا، التي حصلت في 29 أيار/مايو 1985 حيث كان نادي ليفربول الفريق الأوروبي الأول الذي يفوز ببطولة كأس الأندية الأوروبية أربع مرات في المواسم المتتالية. وقد حدثت المشكلة في مباراة النهائي، بين نادي ليفربول الإنكليزي مع نادي يوفنتوس الإيطالي، إذ نشبت أعمال شجار وعنف متبادل بين جمهور الناديين، أدت إلى جرح 600 شخص ومقتل 39 آخرين.
وعلى الصعيد العربي هنالك العديد من سلوكيات العنف لدى جماهير كرة القدم مثال ذلك ما حصل في ما يعرف بأحداث ألتراس الأهلي في بورسعيد عام 2012، إذ شهدت مدن مصر نشاطا ملحوظا لمشجعي كرة القدم، الذين نزلوا في تظاهرات عديدة إبان أحداث ثورة 25 كانون الثاني/يناير والعام الذي تلاها، وسقط من ألتراس الأهلي عدد من القتلى برصاص الشرطة، في مواجهات بين مشجعي النادي الأهلي وقوات الأمن. وفي مباراة الأهلى ضد المصري البورسعيدي، في الأول من شباط/ فبراير 2012 كانت أجواء المباراة عدائية منذ البداية بين جمهوري الفريقين، وسط تساهل أمني واضح في التصدي للسلوكيات العدوانية لجمهور الفريقين، حتى وقعت المجزرة بعد المباراة، حيث نزلت جماهير مشجعي المصري البورسعيدي بكثافة إلى أرض الملعب وهجموا على جمهور الأهلي، حيث سقط نتيجة هذه الاشتباكات 72 قتيلا ومئات الجرحى أغلبهم من ألتراس الأهلي. وفي بعض الأحيان يكون التماهي بين الجمهور الكروي وفريقه غريب وعابر لمفاهيم الهوية وتكوين الجماعات، مثال ذلك انقسام الشارع العراقي بين مشجعي أبرز ناديين في الدوري الإسباني، وهما برشلونة وريال مدريد، وقد حدثني مرة شاب مقيم في الولايات المتحدة، قائلا: «ذهبت لخطبة البنت التي أردت الزواج بها، وهي من عائلة عراقية، كان والد الفتاة برشلونيا متعصبا، وكان والدي رياليا متعصبا، أما انا فلم أكن متعصبا، لكني كنت أحب برشلونة، وفي حديث الخطوبة لم يكن الكلام عن المهر والذهب والمستلزمات، إذ فاجئنا حماي المستقبلي بالسؤال عما إذا كنا برشلونيين أم رياليين، ولما سمع جوابنا احمر وجهه غضبا وقال لابي بشكل صارم، المهم الولد برشلوني أنا مالي علاقة بالاب، وأردف الشاب قائلا الحمد لله كادت الزيجة تتفركش بسبب الليجا الإسباني».
ويذكر الكاتب والمفكر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار حادثة خطيرة ومعبرة عن التعصب لدى جمهور كرة القدم، إذ يشير في مقال له قائلا: «مرة ساقني الحظ إلى مشاهدة مباراة إنكلترا والبرازيل خلال وجودي في السليمانية، العاصمة الفكرية لكردستان. كنا في ضيافة مسؤول، نجلس في صالة شبه رسمية. كان باب الصالة مشرعاً (لم نفهم السبب). كانت عواطفنا، نحن القادمين من لندن، تتجه عن غير قصد، إلى دعم الفريق الإنكليزي. وبّخنا مضيفنا، ولما وجدنا غافلين عن زجره، أومأ بسبابته: أن اصمتوا! ثم أشار إلى الباب المفتوح، ولما دسست رأسي خارجه وجدت نحو خمسين مسلحاً (من حماية المسؤول) شاكين السلاح تأييداً للبرازيل، لم يكن بحوزتي وزملائي سوى أقلام ودفاتر ملاحظات. التزمنا صمتاً مهذباً. فازت البرازيل بالطبع، وابتهجت السليمانية بمظاهرات فرح جذلة طافت شوارع المدينة».
وعلى الرغم من كل تلك السلوكيات العنيفة والمرفوضة، إلا أن هناك سلوكيات تفرح القلب لدى البعض الاخر من جماهير كرة القدم، مثال ذلك سلوك الجمهور الياباني في مباريات كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في الدوحة عام 2022، إذ قدم الجمهور الياباني درسا جديا لمشجعي كرة القدم في العالم، وذلك بعد أن قاموا بتنظيف المدرجات وإزالة كل المخلفات في الأماكن التي كانوا فيها أثناء مباراة اليابان مع ألمانيا، في ملعب خليفة، وكنا نرى الياباني وهو يقوم بذلك وهو مبتسم وفخور انه يقدم خدمة للمجتمع ولكرة القدم العالمية.
صادق الطائي، كاتب عراقي/ نقلا عن القدس العربي