يقطين يكتب.. «ريحة الدُّوَّار»: موسوعة شعبية
رغم الهيمنة الواسعة لوسائل التواصل الاجتماعي، وفرضها نماذج متعددة من التواصل، الذي يغلب عليه البعد الترويجي لأشكال من الثقافة العابرة، فإن توظيفها لنقل ما أنجز في الوسائط الجماهيرية (راديو، تلفزة) يكون مفيدا جدا، ولاسيما حين يكون غنيا وثريا من برامج إذاعية مثلا، لا يتاح للجميع متابعتها. أُمثِّل لذلك بالبرنامج الإذاعي «ريحة الدوار» الذي يعده ويقدمه ويخرجه الكوميدي محمد عاطر. لقد مرّ على انطلاقه 14 سنة، وهو ما يزال متواصلا إلى الآن مرة كل أسبوع. اختار عاطر عنوان برنامجه بجعله متصلا بعالم البادية، الذي ظل مغيبا عن الاهتمام. فكلمة «الدوار» في الدارجة المغربية تعني مجموعة من السكان تجمعهم أواصر القرابة العائلية، ومكان محدد يعيشون فيه أبا عن جد. ومن عدد من الدواوير تتشكل القبيلة.
أما الريحة (الرائحة) فذات حمولة زمنية ببعدين: ثابت وزائل. أما الثابت فيكمن في خصوصية رائحة الدوار تبعا لموقعه ونشاط ساكنته. ويعكس البرنامج هذه الخصوصيات الثقافية التي تتميز بها الدواوير التي وقف عليها، في تنوعها وتعددها. أما الزائل فيبرز في كون رائحة الدوار بدأت تتغير، من جهة بسبب وفيات شيوخها، وضياع رصيد تراثي مهم ظلوا يحملونه أبا عن جد، ومن جهة ثانية تبعا للتطور الذي بدأت تعرفه البادية المغربية، من تحديث بسبب دخول الكهرباء، وتوفر المواصلات، وتغير نمط العيش. إن قيمة البرنامج في محاولته الإمساك بالثابت في الرائحة، والمتمثلة في اختياره الشيوخ لاسترجاع ما تحفل به ذاكرتهم عن الفضاء الذي يعيشون فيه، فيتتبع، من خلال محاورتهم أصل القبيلة التي ينتمي إليها الدوار، ومكوناته المختلفة، وأهم رجالاته، ومميزات العادات والتقاليد التي كانت سائدة، واندثرت، أو التي ما يزالون يحافظون عليها.
أعتبر من هذه الناحية قيمة هذا البرنامج، وأهميته الخاصة. فهو سجل حي لذاكرة معرضة للزوال، وتكفي متابعة، ولو من خلال عدد محدود من الحلقات حول بعض الدواوير، وإن كانت متقاربة، لنقف على خصوصيات كثيرة تبدأ من اللهجة، إلى نمط الحياة، واختلاف العادات، والتصورات، وما تزخر به من تجارب وسلوكات، وما تحتفظ به الذاكرة من أخبار نادرة، وأمثال، وأشعار قديمة، أو من إبداعات أهل المنطقة. وتبرز لنا هنا بجلاء طبيعة الدور الذي يقوم به البرنامج، ووظيفته في التعريف بهذه الدواوير، جغرافيا وتاريخيا من جهة، ومن جهة ثانية في تقديم عوالم خاصة لا علاقة لها بالمدينة، وبالثقافة السائدة، بحيث تبدو لنا الذاكرة القديمة ما تزال حية من خلال هؤلاء الشيوخ. لكن خصوصية هذا البرنامج لا تكمن فقط في وظيفته التي تتجلى من خلال مسعاه إلى تقديم ثقافة مهمشة ومعرضة للزوال، وهي ذات قيمة استثنائية، بما يمكن أن تتيحه للباحث الاجتماعي والأنثروبولوجي من مادة مهمة للبحث، لكن في طبيعته أيضا.
لقد أضفى الفنان الكوميدي الشعبي رائحة خاصة على هذا البرنامج بجعله «الضحك الشعبي» أساس وركيزة كل الحلقات. فإذا هو مبني على قاعدة: «قلها واضحك عليها». ولعل الضحك من مميزات الثقافة الشعبية. كل الأسئلة تطرح بطريقة مثيرة للضحك، وكل الإجابات استجابة وإثارة للضحك. لا يبرز الضحك فقط من خلال النوادر التي تحكى، وهي واقعية وحقيقية، وكان عاطر يتصيدها بأسئلته عن المُغرَّبات، والمواضيع التي لا تحكى إلا في المجالس الخاصة، لكن أيضا في اللهجات، والأصوات، والمفردات الخاصة، التي نجد فيها التحريف غير المقصود، أو اللحن، أو في المواد المقدمة، التي تعكس نمط حياة خاصة. فإذا بالبرنامج، وخلال ساعة كاملة تقريبا، فسحة للضحك والإضحاك. وتبرز خصوصية الضحك هنا، في أنه ليس فقط ضحكا على، لكن أيضا مع، فالكل من المحاور والمستجوب إلى الحضور في المجلس «يتضاحكون» مع بعضهم، وعلى بعضهم، دون أن يكون في ذلك أي أثر على أي من الحضور. وفي كل هذا نجد العفوية الشعبية، والبساطة الخاليتين من أي عقدة أو تعقد. ولعل في هذا المستوى يبرز نجاح البرنامج، حيث تهيمن الفرجة الشعبية في صفائها وأصالتها.
وأنا أتابع حلقات هذا البرنامج الذي غطى عشرات الدواوير في الكثير من المناطق المغربية في الشاوية، وعبدة، ودكالة، واحمر، والشياظمة، وغيرها، وهو الآن متوجه إلى تاونات في الشمال، كان يهمني إلى جانب الإمتاع الإفادة. إن المواد المقدمة وهي غنية ومتنوعة تضمن أقوالا وأفعالا، من الذاكرة الواقعية عن أحداث حقيقية وتاريخية كانت تدفعني إلى اعتبار هذه المادة ذات طبيعة موسوعية تقدم فائدة مهمة للباحثين والدارسين في العلوم الاجتماعية والإنسانية والأدبية. إن بقاء هذه المادة رهينة وسائل التواصل الاجتماعي يحصرها في زمن استقبالها وتلقيها بحثا عن لحظة فرح عابر.
تفرض الضرورة العلمية نقل تلك المادة، سواء ما قدم منها في البرنامج، أو لم يقدم، إلى التدوين الكتابي لأنه الأبقى. لقد كان تحويل الشفاهي إلى الكتابة مهما في تاريخ الحفاظ على الذاكرة الجماعية، لكن هذا العمل يستدعي قيام فرق بحث ومختبرات ومراكز بنقل هذه المادة الموسوعية إلى الكتابة، عبر اتباع طرق البحث، وتصنيفها حسب الأماكن، والموضوعات، في أبواب وفصول لتكون قابلة للدراسة والبحث.
سعيد يقطين/ نقلا عن القدس العربي