الصّـين وخُـفوت الدّور السّياسيّ
مع أنّ صين ماوتسي تونغ ظلّت، طَـوال فترة قيادته لها (1949-1976)، دولةً ذات مشروع سياسيّ إقليميّ وعالميّ فرضَـتْهُ عليها تعاليمُ الاشتراكيّة وفكرتُها الأمميّة العابرة لحدود الأوطان والمجتمعات، إلاّ أنّها استنكـفت عن القيام بأيّ أدوارٍ سياسيّة من طبيعة كونيّة.
لا يجادل أحدٌ في ما كان للصّـين من نفوذٍ إقليميّ في محيطها (في كوريا الشّماليّة وڤييتنام وكامبوديا…)؛ ولا في منافستها الاتّحاد السّوڤييتيّ السّابق على النّفوذ في حركات اليسار الاشتراكيّ في العالم، وحيث ما من بلـدٍ في العالم، تقريباً، لم يشهد على قيام تنظيمٍ سياسيّ ماويّ – أو مستلهم للأفكار الماويّة – فيه. مع ذلك ما اعتـنتْ، كثيراً أو قليلاً، بأن تستـثمر ما لديها من موارد نفـوذٍ في السّياسة الدّوليّة، حتّى حينما صارت عضواً دائم العضويّة في مجلس الأمن يتمتّع بحقّ النّـقض (الڤـيتو). هذا من غير أن نضيف إلى مزايا الصّين عِظَمَ حجْمها الجغرافيّ والسّكانيّ في رقعةٍ مكانـيّةٍ فسيحة أشبه بالقارّة، وغنى مواردها الطّبيعيّة ناهيك بمخزونها الحضاريّ والثّـقافيّ كواحدةٍ من أقدم البلدان التي نشأت فيها أخصبُ الحضارات وأعرقُـها…
لا يشبه الصّين (في هذا الاستنكاف عن النّهوض بأيّ دورٍ سياسيّ عالميّ) من الدّول الكبـرى، في العصر الحديث، سوى اليابان. ظـلّ هذا البلد يحتلّ في العالم مرتبة القـوّة الاقتصاديّـة الثّانيّـة، بعد الولايات المتّـحدة الأمريكيّة، لفترة خمسين عاماً ممتدّة من أوائل خمسينيّات القرن الماضي حتّى أوائل هذا القرن (قبل أن تعود تلك المرتبة الثّانـيّة إلى الصّين). ومع ذلك، لم تَـبْـدُ على اليابان رغبةٌ في ترجمة قـوّة الاقتصاد والنّـفوذ الاقتصاديّ في العالم إلى دورٍ سياسيٍّ مساوِق. ولعلّ لذلك ما يـفسِّرهُ في تجربة اليابان الحديثة، حيث قادت طموحاتُ اليابان التّوسّعيّة هذا البلد إلى نهايةٍ مأساويّة صارخة في الحرب العالميّة الثّانـيّة: الاستسلام العسكريّ وتلقي الضّربات النّوويّـة الأولى في مدينتي هيروشيما وناغازاكي. وما من شكٍّ في أنّ هـوْل المأساة تلك ظلّ في خلفيّة إعراض اليابان عن القيام بأيّ دورٍ سياسيّ يوازي مكانـة الاقتصاد اليابانيّ في العالم.
على خُطى اليابان صارتِ الصّيـنُ مستلهمةً النّموذجَ الذي رسم صورةً لدولةٍ يابانيّة عظمى في العصر الحديث. وهي المـرّة الأولى في التّاريخ التي تجد الصّينُ فيها نفسَها مدفوعةً إلى الاستفادة من خبرة بلدٍ كان، عبر مراحل التّاريخ، عالةً على الصّين. كـلُّ شيءٍ في اليابان كان مَـأْتاهُ من الصّين: من الدّين إلى الكتابة إلى أنظمة الريّ إلى التّنظيم الإداريّ، إلى العمارة فإلى الفنون. فكأنّما الصّين تستعيد من اليابان – باستلهامها النّموذج النّهضويّ – ما كانت قدّمتْه لكلّ محيطها (ومنه اليابان) من الموارد الحضاريّة. نقول هذا على الرّغم من أنّ «المعجزة الصّينيّة» لم تكن وليدةَ «المعجزة اليابانيّة» حصراً، بل ساهم في صناعتها عددٌ هائل من النّماذج المُنتَـهل منها: من النّموذج السّوڤييتيّ في البدايات إلى النّماذج الأوروبيّة والأمريكيّة.
أتى الاقـتداءُ الصّينيّ باليابان مزدوجاً: اقتصاديّـاً وسياسيّـاً. فأمّا من جهة الاقتصاد فللقرب الجغرافيّ، ولأنّ النّهضة في اليابان نجحت في بلدٍ كان، مثل الصّين، غارقاً في التّخلّف إلى منتصف القرن التّاسع عشر ثمّ أقلع إقلاعةً حقّق فيها في عقود ما حقّقته بلدانُ الغرب في قرون. ومن الطّبيعيّ، في حالٍ كهذه، أن تنجذب الصّين إلى هذا النّموذج اليابانيّ. وأمّا من جهة السّياسة فلأنّ الصّين سلكت مسلك اليابان في الإحجام عن القيام بأيّ أدوارٍ سياسيّة كبرى في السّاحة الدّوليّة لتتـفرّغ إلى مشروعها النّهضويّ التّنمويّ الذي انطلق في العالم 1978 على منوال تفرّغ اليابان للتّنميّة والبناء الاقتصاديّ منذ نكبة العام 1945.
اختارت الصّين أن تمضيَ في طريق هذا النّموذج اليابانيّ – نموذج التّـقـشُّـف في الأدوار السّياسيّة – على الرّغم من أنّها لم تتلقّ ما تلـقّـتْه اليابان من ضربات التّدمير والإفناء. ما كان إحجامُـها عن إتيان أدوارٍ دوليّة ثـمرةَ اتِّعاظٍ بدرسٍ سابق مثل اليابان، إذن، بل لأنّ معادلةً ذهبيّةً استوطنتِ العقلَ الصّينيّ ووجّهت سياسات الحزب والدّولة، ومفادُها أنّ على الفعل السّياسيّ أن يتحرّك بمقدار وزنه في ميزان الممكنات الاقتصاديّة والإنتاجيّة والعلميّة والعسكريّة، فلا يندفع إلى ما يجاوز قدرة الحاضنة الاقتصاديّة على تمكينه منه. لعلّه درسٌ صينيٌّ مستخلَص من الخبرة التّاريخيّة للصّين، تعيد العمل به اليوم؛ ولعلّه صُـقِـلَ أكثر من طريق ملاحظة الصّين مدى البون الهائل الذي يفصل السّياسة الدّوليّة الإمبراطوريّة للاتّحاد السّوڤييتيّ عن إمكانيّـاته الاقتصاديّة، وما جرّهُ عليه ذلك البون من عظيم التّكاليف على دوره… ثمّ مِن سيئ النّـتائج على مكانته في العالم. في كلّ حال، ما أتتِ الانكفاءةُ السّياسيّةُ عن مشكلات العالم تمثِّـلُ هروباً من الصّين، بمقدار ما أتت توفّـر للصّين هدنةً ضروريّةً مع الأَخصام تتفرّغ فيها لبناء اقتصادها وجيشها ومواردها على النّحو الذي تحمي به أيّ دورٍ سياسيّ كبيرٍ يمكن أن تنهض به في المستقبل.
عبد الإله بلقزيز/ كاتب ومفكر مغربي