نزار بركة وحزب الاستقلال… هل يعود التاريخ بثوب معاصر؟

يقول هانز مورغنثاو [ السياسة الجيدة تُبنى على الذاكرة، ولكنها لا تتوقف عندها.]
بهذه المقولة، أبدأ التفكير في احتمال قد يبدو مألوفا لكنه محاط بأسئلة جديدة: ماذا لو قاد نزار بركة الحكومة المغربية المقبلة؟ ماذا لو عاد حزب الاستقلال إلى سدة التدبير، لكن بوعي مختلف عن زمن “الميزان القديم”؟ لعل ما يدفعني لهذا الاحتمال ليس فقط التاريخ، بل الطريقة التي بدأ بها الحزب يستعيد لغته وسط الضجيج. فهل نملك رفاهية تجاهل نزار بركة حين تتقاطع الكفاءة مع الامتداد العائلي والشرعية التاريخية؟
المفصل الأول: حين يصبح الهدوء استراتيجية
لا أحد يختلف في أن نزار بركة ليس من طينة السياسيين الصاخبين. نبرة صوته تكاد تهمس، وحضوره لا يستعرض نفسه، لكنه في المقابل يشتغل بصمت. رجل تدرّب في دهاليز الدولة، واحتك بملفات الاقتصاد والمالية، ويملك اليوم من التراكم ما يمنحه ثقة صانعي القرار، حتى من دون أن يطلبها. هذا النمط في القيادة قد لا يثير الحماس، لكنه قد يمنح البلاد شيئًا من الطمأنينة في مرحلة متقلبة.
المفصل الثاني: عودة الميزان… بخفة سياسية
حزب الاستقلال يحمل في جعبته إرثًا من الوطنية والشرعية، لكنه لم يكن دومًا موفقًا في تحويل هذا الرأسمال الرمزي إلى طاقة سياسية. نزار بركة يحاول أن يُعيد للحزب توازنه، عبر خطاب اجتماعي متماسك، وابتعاد محسوب عن منطق المواجهة. تحت قيادته، صار “الميزان” يزن كلماته بدقة، ويستثمر في فكرة الدولة الاجتماعية كأفق. هذا التحول قد يجعله جذابًا لتحالفات تبحث عن الوضوح بدون ضجيج.
المفصل الثالث: الاقتصاد كمدخل للسياسة
حين يتكلم بركة عن الأرقام، يبدو كأنه يعود إلى بيته. اشتغل طويلًا في مؤسسات إنتاج القرار، من وزارة الاقتصاد إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ويعرف جيدًا مفاتيح الإصلاح دون أن يتورط في المبالغات الشعبوية. هذا الملمح قد يكون حاسمًا في تشكيل الحكومة المقبلة، خصوصًا إذا ما استمرت الأزمات الاجتماعية والمالية في التصاعد. المغرب لا يحتاج فقط إلى من يرفع الشعارات، بل إلى من يربط بين المؤشرات وخبز الناس.
المفصل الرابع: شرعية النسب أم شرعية الفكرة؟
لا يمكن الحديث عن نزار بركة دون استحضار خلفيته العائلية، فهو حفيد علال الفاسي، وهذه النسبة وحدها قد تكفي ليُمنح فرصة الزعامة. لكننا في زمن لا يكتفي بالألقاب، ولا يتسامح مع الرموز إذا لم تنتج أثرًا. نزار يبدو مدركًا لهذا، ولهذا يُخضع كل تحرك لمبدأ المردودية الهادئة. هو ابن المدرسة الوطنية، نعم، لكنه يصر على أن يكون حاضرًا بأسلوبه لا فقط باسمه.
المفصل الخامس: عودة بلا انتقام
حين يُطرح اسم نزار بركة، يعود شبح انسحاب حزب الاستقلال من حكومة بنكيران، وتفاصيل صراعات قديمة مع رفاق الأمس. لكن بركة ليس من هواة تصفية الحسابات، ويبدو أنه اختار أن يترك تلك المعارك للماضي. فهل يمكن لحزب الاستقلال أن يعود إلى المشهد الحكومي، دون أن يُنظر إليه كخصم سابق؟ وهل يمكن لبركة أن يقنع الشارع بأنه لا يسعى للثأر، بل للمساهمة في لحظة تحتاج إلى عقل متزن؟
المفصل السادس: المسافة من السلطة… الاقتراب من الفرصة
الاستقلال لم يكن في الواجهة خلال التجارب الحكومية الأخيرة، وهذا قد يكون لصالحه. لم يُستنزف في التبرير، ولم يتلوث بقرارات غير شعبية. هذه “المسافة” قد تمنحه اليوم فرصة لعرض نفسه كطرف مستعد لاختبار جديد، بشروط مختلفة. فإذا كُلف بركة بقيادة حكومة جديدة، فلن يُحاسب على ماضٍ قريب، بل سيُنتظر منه أن يفتح أفقا جديدا، بأقل قدر من الشك.
الرتاج: ما يقوله التاريخ… وما لا يقوله
نزار بركة لا يركض نحو الأضواء، لكنه لا يتفاداها. وحزب الاستقلال لا يعيش لحظة صعود جنونية، لكنه لا يعاني أيضًا من فقدان الوزن السياسي. ربما هذا التوازن هو ما يحتاجه المغرب اليوم: قيادة لا تتكلم كثيرا، لكنها تنصت. حزب لا يخترع نفسه من الصفر، بل يُعيد توجيه إرثه. وفي النهاية، لا يتعلق الأمر بحنين إلى الماضي، بل بكيفية استخدامه لإنتاج مستقبل لا يُشبه أحدا..
قد لا تكون كل الفرضيات يقينا، لكن التفكير فيها بعمق هو ما يمنح السياسة بعدها الإنساني. ولهذا اخترت أن أفكر بصوت عال، لأن الهمس لا يليق بالأسئلة الجريئة.”
ميمونة الحاج داهي