حين يبكي العرق بصمت: قراءة فلسفية في مأساة الشغيلة

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع باحث في القانون العام والعلوم السياسية

في عتمة الحقول والمصانع والمكاتب المنسية،

ينهمر العرقُ صامتًا كما لو كان صلاة بلا معبد،

وصرخة بلا صوت.

فاتح ماي، إذ يُعاد استحضاره كل عام، لا يستدعي فقط ذاكرة الاحتجاجات والأحلام المؤجلة،

بل يوقظ سؤالًا أكثر قسوة: من يتذكّر الشغيلة حقًا حين ينتهي موسم الشعارات؟

لقد أدرك الفلاسفة الكبار، من ماركس إلى حنا أرندت، أن العمل الإنساني ليس مجرد نشاط اقتصادي بل تجربة وجودية،

ومع ذلك، كم مرة حوّلنا العامل إلى مجرد رقم في معادلات الإنتاج؟

كم مرة غطينا صرخاته بأغطية الخطابات الرسمية الباردة؟

في هذا المشهد المنكسر، تتفجر أسئلة موجعة لا مهرب منها:

1.هل ما زال العمل مشروع تحررٍ للإنسان كما حلمت به السرديات الكبرى، أم تحوّل إلى عبودية معاصرة تحت مسميات براقة؟

2.لماذا، رغم التقدم القانوني والدستوري في كثير من البلدان، لا تزال الشغيلة تواجه نفس دوائر الإقصاء والاستغلال والهشاشة؟

3.هل فاتح ماي اليوم مجرد ذكرى فولكلورية تُعقّم غضب العمال، بدل أن تكون محطة حقيقية لاستنهاض الوعي الطبقي؟

4.كيف نجحت آليات السوق النيوليبرالي في تفتيت التضامن العمالي، وتحويل الشغيلة إلى ذوات معزولة تتنافس على البقاء بدل أن تتكتل حول قيم الكرامة؟

5.وأي مستقبل يمكن أن يُرسم لعالم العمل، في زمن الأتمتة والرقمنة، حين تصبح الآلة أقدر على الإنتاج من الجسد البشري المنهك؟

6.أليس من المأساوي أن يتحول شعار “الحق في الشغل الكريم” من مطلب جماعي إلى أمنية فردية محفوفة باللايقين؟

حين نبصر هذا النزيف البطيء، ندرك أن فاتح ماي ليس احتفالًا، بل علامة فارقة في سجل الخيبات المتراكمة.

فباسم التطور، جرى “تسليع” اليد العاملة،

وباسم المرونة، جرى الإجهاز على الاستقرار المهني،

وباسم الانفتاح، جرى تعميق الفجوات بين العامل ورأس المال،

وكأن الإنسان صار مجرد هامش قابل للاستبدال، لا مركزًا للأولوية.

إن بكاء العرق الصامت هو احتجاج عميق على هذا المسار:

احتجاج على فكرة أن تكون الحياة ذاتها خاضعة لمنطق الربح والخسارة.

وفي مواجهة هذا الصمت المنهك،

يبدو أن السؤال الجوهري الذي يطرحه فاتح ماي اليوم هو:

كيف يمكن استعادة شرف الكدح، لا كعبء لا بد منه، بل كقيمة وجودية لا غنى عنها لتحقيق المعنى الإنساني؟

لأن العامل لا يطلب صدقة من التاريخ،

بل يطالب بحقه الكامل في الزمن، في الحلم، وفي الكرامة.

وفي هذا المسار الطويل، قد يكون الطريق أكثر وعورة مما نظن،

لكن تذكّر معاناة الشغيلة، ونزيف العرق الصامت،

هو أول خطوة لاستعادة المعنى وسط هذا التيه الوجودي.

مقالات ذات صلة