أزواد والرهانات الجيو سياسية الجديدة

يعيش الشمال المالي، منذ عقود، وضعا يخطو في ظله نحو الفوضى، وهو ما يحوله إلى ملاذ آمن للتنظيمات المتطرفة، وإلى إحدى الممرات الرئيسة لتجارتها في التهريب.

وما يسترعى الانتباه أن كثيرا من المعنيين بالمنطقة، انتبهوا إليها الآن، وكأنهم سمعوا بأزواد لأول مرة في ظل ما تتداوله وسائل الإعلام، من مظاهر أزمة إنسانية ووجودية تغلي منذ عقود دون الوصول إلى خلفياتها العميقة وأسبابها، وطبيعة سكان الإقليم وموارده الاقتصادية والمحددات الخشنة التي ظلت تضبط علاقته بباماكو، وكذا التحديات الجيوسياسية المطروحة على محيطه الجغرافــي وتداخله الاجتماعي والتاريخي مع دول الجوار، والتداعيات الجيو استراتيجية المنتظرة من إعلان استقلاله على دول الساحل وشمال إفريقيا ومن بينها المملكة المغربية، التي لها علاقات تاريخية قوية بالإقليم وبعض مكوناته البشرية.

أولا- الطبيعة الجغرافية والبشرية لهذا الإقليم الملتهب

أزواد، وتعني باللغة التاركية “الحوض”  (LE BASSIN)، يمتد بين كامل منطقة الشـرق الموريتاني موازاة مع شمال الخريطة المالية، وتدخل أجزاء منه في أراضي النيجر وجنوب الجزائر.  وتذهب الدراسات إلى أنه آثار تجمع مائي ناتج عن فيضان نهر النيجر.

شكل أزواد، في العصور الوسيطة، طريقا رئيسيا لتجارة الصحراء، ومنطقة عبور مجموعات الرحل بين غرب وشمال القارة الإفريقية مع شرقها، وإحدى طرق الحج المعروفة، قبل أن يتحول في العـصـر الحديث إلى ممر لتهريب الدخان والمخدرات القادمة من أمريكا الجنوبية في طريقها إلى أسواق دول الخليج العربي وآسيا وأوروبا.

ظل النظام الاجتماعي في هذه المنطقة أساسه “قانون العصبيات”، تنتـصر القبيلة لنفسها وعصبيتها، وهو ما يفسر إلى عهد قريب غياب الاقتتال الداخلي بين مجموعاته من جهة، وبينها مع مجموعة “القاعدة”، من جهة أخرى، والتي استوعب تنظيمها المسلح هذا النظام الطبيعي وركب وجوده عليه إلى الآن.

ويوجد به “كنانيش” قبلية عديدة من بينها:

*  مجموعة ” كل نتصـر” لها صلات قوية اقتصادية مع جالية “البيظان” في السعودية وصلات تاريخية مع المغرب، وزعامتهم هي أسرة أهل الطاهر؛

* “لبرابيش”، قبيلة شوكة يتفق نسابة الصحراء على أنهم مغافرة، وتوجد نزعة “عروبية” بين شبابها اليوم، تستقر زعامتهم عند أولاد اسليمان؛

* “أولاد المولات”، وهو أحد الفروع الشـرقية من قبيلة أولاد أدليم، القاطنة بالجنوب المغربي وشمال موريتانيا؛

* كنتة، مجموعة روحية ذات تاريخ علمي وصوفي، تربطها صلة ثابتة بمجموعة “بنمبارة”، وتميل للتعامل مع الدولة المالية في باماكو.

أما مجموعات الطوارق وهم الغالبية فأبرزها:

* “يفوغاس”، القاطنة بكيدال، من زعمائهم أياد عبد الحكيم رئيس حركة أنصار الدين حاليا، وسبق أن انضم للجبهة الشعبية في لبنان في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي؛

*   “إيدنان”، وهي مجموعة تاركية، تستوطن منطقة “تنزاويتن”، وتقدر بأنها أكبر المجموعات المسلحة داخل الجبهات العسكرية في  أزواد؛

* مجموعة “السونراي” الزنجية، وتعرضت في السنوات الأخيرة لما يوصف بالتطهير العرقي، واحتمت أعداد كبيرة منها بالأراضي الموريتانية، وهي أكثر المجموعات اليوم تسليحا وتدريبا في تنظيم “القاعدة”، بعد تناقص المجموعات التاركية والعربية داخله في الآونة الأخيرة.

ثانيا-جذور الأزمة السياسية بأزواد والتداعيات الجيوسياسية المحتملة

لم يعد خافيا اليوم، حجم المظلمة التاريخية في حق سكان أزواد، وما آلت إليه السياسات الخارجية لدول الغرب، والجوار، وحكومات باماكو التي ظلت تُغذي الصراعات، وتفرض على حكومات المنطقة التبعية والإهانة، وحولت فضاءات عديدة من دولها إلى ساحة حروب أهلية. لكن خروج فرنسا من مالي وانتكاستها السياسية، بعد تحويل انتصاراتها التكتيكية في السابق على المتمردين بطائرات ( ادرون) و(لبريكي) إلى هزيمة استراتيجية ومعنوية، عزز لديها و لدى الدول الأوربية، عقيدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية ومساعدتها، بدلا من ذلك في حل نزاعاتها بالطرق السلمية، وهو ما ينبغي أن يدفع نخبنا وصانعي قرارنا  إلى قناعة؛ بأن مصير مجتمعات بأكملها، حولنا ومِنَّا لا يجوز تركه للصمت العقيم؛ إن أي سياسة تتعلق بمصير جنوب المغرب وموريتانيا، لا يمكنها أن تتجاهل أزواد، كما وقع طيلة أكثر من نصف قرن، وهذا الأمر وحده كاف ليمدنا بأسباب ضعف المعلومات عنه.

كما أن الأحداث الجارية، تؤكد أن ما راهنت عليه الحكومات المالية من انقسام مجموعات أزواد بين الولاء لها والانفصال لم يعد موجودا، وحل مكانه تصميم الأزواديين على هزيمة وحدات “فاغنر” وتكبيدها الخسائر الفادحة، كما حدث قبل مدة ببلدة “تينزاواتن” القريبة من الحدود الجزائرية، وسيعزز فشل وضعف الدولة المالية، المتواصل، لدى هؤلاء، الانخراط في مسار الانفصال سواء بدون شروط أو بشروط متفاوض عليها.

 

ثالثا- الأحداث الكبرى المؤثرة في الإقليم

من بين أهم الأحداث التي أثرت في الإقليم، يمكن أن نذكر:

1- استقلال موريتانيا، وانسلاخ هذا الجزء ( أي أزواد) من سكان الصحراء إلى دولة السودان الفرنسي ( مالي الحالية)، والذي يستوطنه تاريخيا الطوارق وبعض القبائل العربية.

2- بناء سد MARACORA على نهر النيجر سنة 1954، حيث أن النهر يغمر أجزاء كبيرة من صحراء أزواد ويصل إلى مدينة تنبكتو، ومدينة رأس الماء، ويوفر للسكان موسميين زراعيين: موسم الأمطار وموسم غمر النهر لمناطق واسعة من أرضهم، لكن بعد قيام السد، انقسمت أراضي مالي إلى منطقة زراعية عاصمتها سيكو، وبها السلة الغذائية للدولة، ومنطقة قاحلة بمدنها الثلاث: كيدال، كاوة، تنبكتو.

3 -اكتشاف إشارات النفط بمنطقة منخفضة من حوض “تاودني”، بالنسبة لمستوى ارتفاع حاسي مسعود الجزائري، وبدء شركة “توتال” التنقيب في الأراضي الموريتانية، المتاخمة للإقليم مما يعنيه ذلك من أهمية استراتيجية في المنطقة.

4- انهيار الدولة الليبية، التي كانت حاضنة لمجموعات أزوادية عديدة، تحظى زعاماتها بامتيازات عديدة، عاد بعضها سنة 2011 في شكل كتائب مسلحة تحفز على الانفصال والتمرد، ومتابعة ما جرى سنة 1990. ضاعف من ذلك النشاط العسكري لـ “القاعدة” وظهيره الاقتصادي في خطف الأوربيين، المعبر عن حقيقته في النكتة القائلة بأن كل إعلان عن خطف رهينة أوروبية تصاحبه زغاريد نساء أزواد لما ينتظرن من دخل مقابله، في ظل غياب أي التفاتة من الناحية الإنسانية للاجئين الهاربين من جحيم المعاناة.

5- فشل الدولة المالية، وخروج القـوات الفرنسية وقـدوم قوات “فاغنر “إلى باماكو، بعد وصول المجلس العسكري بقيادة أسمي كويتا إلى  الحكم، مثقلا بعقلية أساسها روح الثأر من تمرد الأزواديين المعبر  في حقيقته عن تطلعات مواطنيهم منذ أكثر من نصف قرن،  وأجيال من المضحِّين في سبيل شرعية تاريخية لا مثيل لها عندهم.

هذا الوضع قاد إلى خروج مالي من التجمع الأمني لدول الساحل، وتحالفها مع الانقلابيين في بوركينا فاسو والنيجر، وتطلع الدول الثلاث إلى تحالف واندماج، ما تزال معالمه في طور التبلور والتطلع للاحتماء بقوى دولية وإقليمية جديدة على الساحة الإفريقية ومنطقة الساحل.

رابعا- أزواد والقوى الإقليمية

أولى قوى الجوار الإقليمية الحساسة مما يجري في أزواد، هي الجزائر. فالهلال الجنوبي الشرقي والجنوبي الغربي من أراضيها تقطنه ذات المجموعات، والأساسي من ثروتها النفطية في أعماق المحيط الجغرافي له. وتأتي بعدها النيجر في امتدادها السكاني ومركز ثروتها من اليورانيوم الواقع في المنطقة.  وبعد طرد فرنسا من مالي من قبل الانقلابيين الحاليين، حلت مجموعات “فاغنر”، التي تأكد فشلها وتهيئها للانسحاب، لتحل مكانها قوات تابعة لوزارة الدفاع الروسية نوقش قدومها من شهر نوفمبر 2024 بباماكو مع وفد روسي يرأسه نائب وزير الدفاع الروسي.

وتتوالى أنباء عن رغبة الدولة التركية في التعاون العسكري مع الحكومة المالية، في مجال المسيرات وتأمين الحماية للمقرات الرسمية للحكومة والشخصيات السياسية والعسكرية السامية، ويعتقد أن صفقة 40 “البيرقدار” تمت خلال الأشهر القليلة، وزادت من دعم قدرات الجيش المالي وحاجته للتعافي من هزيمته المدوية مع “فاغنر ” في بلدة “تينزاواتن”.

خامسا- الانعكاسات المباشرة المحتملة على المغرب لما يعتمل بأزواد

أيا كان مصير الإقليم، فستكون له انعكاسات مباشرة على منطقة غرب إفريقيا والمغرب الكبير.  والمملكة، بالطبع، ليست بمنأى عن التداعيات المحتملة لما يدور في هذه المنطقة، خاصة أن مجرد الحديث عن  انفصال  إقليم أزواد سيفتح آمالا عريضة للمشروع الانفصالي للبوليساريو، رغم أن هذا “المتنفس” يظل رهينا بالمواقف المضمرة للجزائريين  في وجود قرائن على وقوفها  وراء مطالبة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إحياء اتفاقية مدريد 1975، لتضييق الخناق على المملكة وإغلاق طريقها نحو عمقها الاستراتيجي في إفريقيا، مع ما يشكله أزواد، من الناحية التكتيكية، خزانا بشريا محتملا للبوليساريو، لتعويض نزيف العائلات المغادرة من  مخيمات تندوف للالتحاق بالوطن الأم، وهو ما يفسـر نشاط الأذرع الأمنية  الجزائرية إزاء قبيلة أولاد أدليم لاستمالة مرجعياتها الاجتماعية نحو هذا المشروع، كما لوحظ  من خلال حفل التكريم الذي أعدته سفارتها  بنواكشط عبر ممثليها بنواديبو لأحد أعيان هذه القبيلة هو الشيخ سيدي ولد حمين، لما يجسده من  شرعية تاريخية مستمدة من جده حمين ولد العروسي، ومكانه على  مستوى منطقة “الساحل” قاطبة.

فقرار التقسيم القديم الجديد، فكرة جزائرية؛ اقترحها الرئيس بوتفليقة في نونبر 2001 على جيمس بيكر، وضمنها الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره سنة 2002. وقد اعتمدت الجزائر في رؤيتها على سابقة التقسيم الواردة في اتفاقية مدريد الثلاثية لـ 14 نونبر 1975. فهي ستمدها بمنفذ على المحيط الأطلسي سيساهم في إحياء الجنوب الجزائري، وتسويق خاماتها المعدنية بتكلفة أقل، ويحقق، وهذا هو طموحها الأهم، عزل المملكة المغربية عن عمقها الإفريقي، ويجعلها في صدارة الريادة أو الدولة المحورية بالمنطقة والساحل والصحراء.

فمنذ أن طرحت الجزائر فكرة التقسيم سنة 2001، تغيرت رؤية مراكز صنع القرار فيها للتركيبة البشرية الصحراوية، بحكم أن فكرة التقسيم نفسها ستفرض متغيرات جديدة على مستوى البنيات الاجتماعية المرتبطة تاريخيا بالمجال.

ومن هنا ستظهر أهمية ومحورية قبيلة أولاد أدليم؛ على مستوى إعادة ترتيب التشكيلات الاجتماعية، ويظهر جليا أن الجزائر بدأت تأخذ ذلك على محمل الجد، وتشتغل عليه، تبيان ذلك يمر عبر مجموعة من المحطات، نذكر منها:

1- عودة “فخد” سلام الذي عاش على مدى عقود من الزمن كمكون من قبيلة الرقيبات إلى أصوله التاريخية كأحد فروع أولا أدليم (أولاد سنان)، أو ما يعرف تاريخيا بأولاد أدليم الشرق، وما كان لهذا الحدث أن يتم دون ضوء أخضر من الجزائر، رغبة في خلق موطئ قدم لأولاد أدليم في المجال الجزائري، ويستدل على هذه المباركة بتأطير السلطات المحلية الجزائرية لهذا الحدث.

2- بعد إلغاء لقاء “البشـرى” قرب عيون العتروس (منطقة بموريتانيا) الذي كان مقررا في نهاية نونبر 2021 بهواجس أمنية وسياسية موريتانية، تم تنظيم ملتقى أولاد أدليم (أولاد المولات…) في منطقة “فم العلبة” قرب تاودني أيام 1، 2 و3 يناير 2022، والذي حضرته كل المكونات العربية الأزوادية.

ويعزي بعض المتتبعين، المتغيرات التي عرفتها المنطقة والاهتمام المتزايد بالمجموعات الأزوادية إلى حاجة الجزائر الماسة إلى الانفتاح على هذه المكونات، لأنها من جهة تعتبر امتدادا لمجالها الحيوي والاستراتيجي خاصة بعد الفراغ الأمني الذي خلفه الخروج الفرنسي من المنطقة، وفشل اتفاق الجزائر بشأن الأزمة المالية، والنظر إليه من مختلف الأطراف بكثير من التوجس من جهة، ومن جهة أخرى يدخل في صيرورة الرؤية الجديدة الجزائرية للتشكيلات البشرية للصحراء في ظل المتغيرات التي تخطط لها، وتحاول فرضها خدمة لمآربها الاستراتيجية.

لذلك فالمملكة المغربية، مدعوة لإعطاء عناية خاصة لهذا الملف ليس من الزاوية الدبلوماسية فحسب، بل بالبحث عن المداخل الممكنة حتى يكون لها حضور فاعل في مجريات الأمور ميدانيا، وهو ما يستدعي بدءا تكثيف البحث بل الإلمام بالمكونات البشرية التي تستوطن الإقليم وارتباطاتها الإقليمية والدولية سواء منها الخفي أو المعلن.

د. سيد أحمد الشرادي

مقالات ذات صلة