جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء تناقش واقع وآفاق المجلات العلمية بالمغرب

حنان النبلي

نظّمت جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، في سياق مشاركتها ضمن فعاليات الدورة الـ30 من المعرض الدولي للنشر والكتاب في الرباط، يوم الاثنين، 21 أبريل الجاري، مائدة مستديرة حول المجلات العلمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، من خلال الإضاءة على خمس نماذج رائدة (“سرود” التي تُعنى بالنقد الأدبي وتصدر عن مختبر السرديات بالدار البيضاء، “بصمات” الصادرة عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، La Revue Marocaine de Droit, d’Economie et de Gestion ، بحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية الصادرة عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية، ثم revue Faits de langue et société”، الصادرة عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق). وبحضور مجموعة من الأكاديميين، والأساتذة الباحثين والمهتمين والطلبة..

سيرت اللقاء الأستاذة فاضمة أيت موس، المكلفة بمهمة تطوير البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، والتي طلبت من الأستاذ المصطفى الخيدر، نائب رئيس جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، التحدث عن السياق العام لهذه المبادرة. وأوضح كيف اعتمدت الجامعة دعم وتعزيز البحث العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال إدراج محور خاص في مشروع تطوير الجامعة. حيث تم تعيين أستاذة مكلفة بمهمة دعم البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية وتخصيص ميزانية لهذا الغرض. كما أن مجلس الجامعة صادق على مشروع إحداث دار علوم الإنسان التي سترى النور قريبا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – عين الشق، والتي ستعنى بمسألة النشر من خلال توفير الموارد البشرية والتقني.

وخلال هذه المائدة المستديرة الهامة، أكد المصطفى الخيدر، على الالتزام الراسخ لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء بدعم البحث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، باعتباره ركيزة أساسية لفهم التحولات المجتمعية ومرافقة السياسات العمومية.

في دائرة الضوء..

في المداخلة الأولى قدّمت الأستاذة الجامعية ومديرة مجلة “revue Faits de langue et société”، نادية كعواس، نتائج تحليل ببليومتري للمجلة، بمناسبة مرور عشر سنوات على انطلاقها، من 2015 إلى 2025. بهدف تتبع تطورها عبر أعدادها العشرة، من خلال دراسة طبيعة المساهمين، وخرائط التعاون العلمي، والتوجهات الموضوعاتية التي طبعت مسيرتها، سعياً إلى إبراز مكانتها في الحقل الأكاديمي المتخصص في قضايا اللغة والمجتمع.

وأوضحت المتحدثة استناداً إلى نتائج التحليل، أن المجلة انطلقت من مرجعية مغربية راسخة، حيث شكلت الجامعات الوطنية العمود الفقري لهيئة المساهمين، ومن أبرزها: جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، بالإضافة إلى جامعات تطوان، أكادير، الرباط، بني ملال، سطات وغيرها. ومع مرور الوقت، بدأت المجلة تشق طريقها نحو آفاق دولية أرحب، فاستقبلت مساهمات من باحثين ينتمون إلى جامعات في الجزائر، إيطاليا، فرنسا، هولندا، وساحل العاج، مما يعكس انفتاحا تدريجيا ومتعدد الأبعاد على شبكات البحث العالمية.

واعتبرت كعواس أن من أبرز مميزات المجلة أيضا، قدرتها على استقطاب لفيف من المساهمين منذ صدور عددها الأول، دون تغييب أسماء جديدة، من بينها باحثون شباب وطلبة دكتوراه، ما يعزز دينامية التجديد والانفتاح. كما أشارت إلى الحضور النوعي للنساء الباحثات ضمن هيئة المساهمين، ما يعكس انخراطا فعليا للمرأة أكاديميا في تطوير هذا الحقل الحيوي.

وأشارت إلى أن المجلة تناولت قضايا متنوعة وغنية، كما تضمنت تحليلات حول السياسات اللغوية، والدراسات الأدبية، والهوية، وتحليل الخطاب السياسي والإعلامي، والدراسات الجندرية، والتراث الثقافي، والتواصل الرقمي…

وختمت كعواس باعتبار نتائج التحليل الببليومتري للأعداد العشرة الأولى من المجلة يعكس دينامية واضحة ذات صلة بالبحث في اللغة والمجتمع، وانفتاحاً وطنياً ودولياً متزايداً، وحضوراً نسائياً قوياً، دون إغفال تنوع وغنى المواضيع. هو ما جعلها اليوم مرجعا مهما ومتجدداً في البحث العلمي.

بصمات وتطلعات

وإذا كانت المجلات العلمية في المغرب بحاجة إلى مجموعة من الضوابط والشروط لتكون في مستوى المنافسة، فإنه لا غنى أيضا عن تطويرها ومواكبتها للمساهمة في ريادتها وإشعاعها سواء داخل الوطن أو خارجه. من هذه الزاوية سلطت سميرة اركيبي نائبة عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك في البحث العلمي ، الضوء على تجربة مجلة “بصمات”، التي انطلقت في الثمانينيات برحاب الكلية ذاتها، لكن تحديات مادية وبحثية كبيرة حالت دون استمراريتها، ولم تعد إلى الصدور إلا مع بداية العام 2000.

وأوضحت اركيبي، أن المجلة خلال المرحلة الثانية استطاعت أن تحقق تقدما ملموساً تميز بنشر حوالي 167 مقالا، كما استقطبت اهتمام أساتذة وباحثين من داخل الكلية وخارجها، مشيرة إلى أن “بصمات” راكمت رصيداً مهماً من المقالات العلمية، وهو دفع إلى التفكير جديا في تطويرها وجعلها منبراً علمياً إلى جانب باقي المجلات العلمية الأكاديمية العالمية.

وأفادت المتحدثة أن هذا المبتغى لن يتحقق إلا بمجهودات الجامعة والأساتذة والباحثين، لجعلها مجلة مفهرسة وعالمية تشجع الطلبة والأساتذة والباحثين وتدفع نحو المساهمة في إشعاعها في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية داخل الوطن وخارجه.

بحوث ودينامية جديدة

في ارتباط بما سبق، وتعميقاً لمسار تشريح واقع المجلات العلمية بالمغرب، تناول الكلمة في المداخلة الثالثة الأستاذ الجامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، كمال الملاخ، انطلاقاً من تجربة مجلة بحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والتي تهدف إلى الإسهام في النشر العلمي في ميادين الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتتميز بتنوعها الموضوعاتي وانفتاحها اللغوي، إذ تنشر مقالات باللغات: العربية، الفرنسية، الإنجليزية، والإسبانية.

وأشار الملاخ إلى أن المجلة رأت النور في منتصف الثمانينيات، ومرت بثلاث مراحل رئيسية. كانت المرحلة الأولى فترة ازدهارها حتى سنوات التسعينيات، حيث شكلت منصة للطلبة والباحثين لنشر بحوثهم ومحركا أساسيا للإنتاج العلمي. ومن هذا المنطلق، أدت دورا جوهريا كمنبر النشر الأبحاث والتقارير العلمية، بالإضافة إلى مساهمتها في مختلف الأنشطة والفعاليات المنعقدة برحاب الكلية. أما المرحلة الثانية التي انطلقت منذ العام 2000 وتزامنت مع اعتماد نظام الإجازة-الماستر-الدكتوراه (LMD) وإطلاق مشاريع بحثية من داخل الجامعات، فقد شهدت دينامية جديدة ساهمت في تعزيز حضورها أكاديمياً. متحدثاً في المرحلة الحالية عن حركية متواصلة سواء على مستوى المواضيع أوالقضايا، بالإضافة إلى الانتقال من الورقي إلى الرقمي، حيث يمكن الاطلاع على أعداد المجلة وتنزيلها مجاناً عبر الأنترنت. مشيرا إلى التطلع نحو الوصول بالمجلة إلى مصاف المجلات المفهرسة عالميا.

سرود ورهان الباحثين

أما الكاتب والأستاذ الجامعي شعيب حليفي، رئيس مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، ورئيس تحرير مجلة “سرود”، فقد تحدث عن أهمية فتح النقاش حول المجلات العلمية بالمغرب، معتبراً أن أبرز المجلات عبر تاريخ المغرب، كان يقف وراءها أساتذة جامعيون لم يكن هاجسهم الفهرسة أو التصنيف لأن هذا المعطى لم يكن مطروحاً آنذاك، بل كان محركهم خلق نقاش أكاديمي ومعرفي بشكل مبسط داخل المجتمع. مشيرا إلى أن المغرب يحتل الصدارة في عدد المنشورات العلمية في مجالات الآداب والعلوم الإنسانية ضمن المجلات العربية، وهو معطى ينبغي الانتباه إليه لتوحيد الجهود وإنشاء مجلات علمية مغربية قوية تُعنى بهذا الزخم المعرفي، بدل الاعتماد الدائم على المجلات الأجنبية المفهرسة.

واعتبر حليفي أن التقدم العلمي الحقيقي للجامعة المغربية، رهين بتوفرها على مجلات علمية رائدة تُبرز وتجمع شتات الإنتاج الفكري الغني للأساتذة والباحثين، مشيراً إلى أن عددا من مجلات الجامعات المغربية كانت عبر سنوات طويلة بمثابة مقابر للمقالات وكان عدد كبير من الأساتذة يرفضون النشر فيها.

واستعرض حليفي تجربة سرود، مجلة النقد الأدبي التي انطلقت في سنة 2018، وتميزت بنشر مقالات باللغات العربية والفرنسية، والإسبانية والإنجليزية، في مجال الدراسات النقدية الأصيلة المهتمة بمجال من مجالات النقد الأدبي، مشيراً أيضا إلى أنها تخضع للتحكيم التخصصي المتعارف عليه في الدوريات العالمية الأكاديمية. وأوضح المتحدث أن المعايير العلمية وضوابط النشر، تمتد أيضا لتشمل الكتب الجماعية التي يصدرها مختبر السرديات. وقال ” أكثر من هذا، فإن تفكيرنا يمتد إلى الجامعة المغربية، وإلى الباحثين باعتبارهم الرهان الأساسي في إعطاء دفعة لتطوير البحث العلمي”.

وأكد حليفي أن المغرب لا يفتقر إلى وجود مجلات، فهي كثيرة، مشيرا إلى أن عدداً من الأساتذة الجامعيين المغاربة في جميع التخصصات يتوفرون على علاقات علمية مهمة، وأفكار رائدة يمكن أن تدفع بعجلة النشر الأكاديمي المغربي نحو الأمام فيما يتعلق بالمجلات العلمية، إذا ما وُجدت هيئات علمية دولية جادة وهيئات تحريرية مستقلة عن المجاملات، تلتزم بالضوابط العلمية والنشر المنتظم..

وختم حليفي بالإشارة إلى ما قاله له أحد الصحافيين ذات لقاء: “لدينا رأسمال بشري لا نحسن استثماره؛ 14 ألف أستاذ جامعي، لو كتب كل واحد منهم مقالا واحدا في السنة، لاحتلت الجامعة المغربية المراتب الأولى على صعيد عربي وإقليمي..”. فالمغرب يتوفر على طاقات بحثية متميزة في الآداب والنقد والدراسات الإنسانية، وهذا ما ينبغي استثماره. كما شدد على أهمية تأسيس مجلات تعكس الهوية المغربية وتدافع عن الأفق الجماعي والإنساني، مشيرا إلى أنه لا يمكن لأي مجلة أن تنجح دون تقاطعات في جميع التخصصات. وأضاف بأن الثقافة المغربية لا يمكن استيرادها، وهي كنز غني بالتعدد والانفتاح، ومن واجب الباحثين والطلبة أن يرفدوا منها في أبحاثهم وأطاريحهم الجامعية، لأننا نحتاج إلى زخم معرفي حقيقي يُبنى من داخلنا.

مجلة REMADEG صعوبات ورهانات التحديث

في حين ركّزت المداخلة الخامسة للأستاذة هند تك-تك بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق، والتي تلت كلمتها بالنيابة فاضمة أيت موس، على السياق العام والتحديات الحالية لمجلة REMADEG (المجلة المغربية للقانون والاقتصاد والتسيير)، التي رأت النور سنة 1982، وتُعد من أقدم المجلات في المغرب (43 سنة، 58 عددا). وأفادت أنها منذ 2018 أصبحت تُنشر رقميا على منصة IMIST. مشيرة إلى عدة صعوبات تواجهها، أبرزها، عدم الاستقرار المالي واللوجستيكي، عزوف الكتاب والباحثين وتفضيلهم المجلات المفهرسة دوليا، بالإضافة إلى صعوبة الانتقال الرقمي، باعتبار النسخة الرقمية غير جاذبة للباحثين المتمرسين رغم وجود مساهمات من طلبة الدكتوراه وأجانب.

واقترحت فيما يتعلق برهانات التحديث والتجديد، الفهرسة الدولية التي أضحت ضرورة لكسب المصداقية واستقطاب الباحثين، عبر الانضمام إلى قواعد مثل DOAJ، EconLit، HAL، تحفيز المؤلفين والباحثين، اعتماد أدوات تنظيمية مثل Open Journal Systems لضبط آجال التقييم. ترشيد الموار بالتركيز على النشر الرقمي لتقليل التكاليف، تطوير منصة حديثة وتقديم صيغ مبتكرة (مقالات قبل النشر، بودكاست للملخصات)، البحث عن تمويل من جامعات ومؤسسات علمية..

ومن ضمن الحلول أيضا، اعتماد التمويل الجماعي الأكاديمي، وعقد شراكات مع مكتبات جامعية، تنظيم ورشات حول أهمية المجلات، أهمية تفعيل استراتيجية تواصلية مع المجتمع الأكاديمي.

أحكام مسبقة وأفكار نمطية

وفي المداخلة السادسة، أكد الأستاذ خالد الحياني، مدير المكتبة الجامعيّة محمّد السّقاط بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أن المجلات العلمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، تعاني في العديد من السياقات الأكاديمية، من أحكام مسبقة وأفكار نمطية غير دقيقة، تُقلل من شأنها ومن أهميتها في فهم التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعرفها العالم المعاصر. وغالبا ما تُوصم هذه المجلات بأنها ضعيفة التأثير أو غير قادرة على بلوغ المعايير الدولية، في الوقت الذي تُنتج فيه أبحاثًا معمقة ومضامين علمية ذات بُعد استراتيجي..

إلى جانب هذه الأحكام، تواجه مجلات العلوم الإنسانية والاجتماعية صعوبات موضوعية، نذكر من بينها: ضعف التمويل والدعم المؤسساتي المنتظم، غياب آليات احترافية للتحرير والنشر الرقمي، محدودية الوصول بسبب عدم الفهرسة في القواعد الدولية، الحاجة إلى تكوينات متخصصة في المعايير الأخلاقية والعلمية للنشر، الضغط على الكفاءات البشرية القائمة على التسيير والتحرير.

وأعلن المتحدث عن مبادرة نوعية أطلقتها الجامعة، تتمثل في إبرام شراكة مع الناشر الدولي Elsevier، تقضي بإيواء هذه المجلات الخمس على منصة Creative Commons الخاصة بـ Elsevier، ومواكبتها تقنيا وعلميا نحو الالتزام بالمعايير الدولية والفهرسة في قواعد البيانات الكبرى. ويواكب هذه المبادرة، دعم منتظم من طرف المكتبة الجامعية محمد السقاط، من خلال رقمنة الأعداد القديمة لهذه المجلات وإتاحتها للقراء، المساهمة في اقتراح وتكوين شبكة من المُحكّمين والخبراء الأكاديميين، مرافقة عملية النشر والتوثيق وفقا للمعايير الدولية.

الرهان كبير جداً

وأعلن الأستاذ المصطفى الخيدر، نائب رئيس جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء أن الجامعة ستعكف على تنظيم قافلة للفهرسة والتمكين العلمي لفائدة الباحثين والطلبة في سلك الدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، سيتم إطلاقها مباشرة بعد استكمال هيكلة البحث العلمي بالجامعة.

واختتمت المائدة المستديرة بفتح باب الحوار مع الحضور، وقد تدخلت خلاله فدوى الماجري، المسؤولة الرئيسية بالمعهد المغربي للمعلومات العلمية والتقنية IMIST والتي طرحت أسئلة أخرى زادت النقاش إثراء وغنى، كما انصب النقاش حول دور المجلات العلمية في دعم البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبحث آفاق دعم حقيقي ومستدام لها، بهدف تمكينها من فرض حضورها في الساحة العلمية الوطنية والدولية، على ضوء التوجه الجديد الرامي إلى تحديث الجامعات المغربية.

مقالات ذات صلة