الجزائر ومأزق الصحراء: هل انتهى استثمارها السياسي

ثلاثة تطورات مهمة حصلت هذا الأسبوع تعزز تتالي النكسات الدبلوماسية للجزائر، سواء في إدارة ملف الصحراء، أو في التموقع الإقليمي في منطقة الساحل جنوب الصحراء، أو في إدارة التوتر مع جارتها الغربية.
التطور الأول، يتمثل في إقدام الجيش الوطني الجزائري على إسقاط طائرة مسيرة تعود للجيش المالي وذلك في 31 مارس الماضي، وما تلاه من تصعيد مالي، أعقبه مباشرة بيان مجلس تحالف دول الساحل الثلاث (مالي، والنيجر، وبوركينافاسو) التي اعتبرت إسقاط الجزائر للطائرة المسيرة المالية عملا عدائيا، واستدعت سفراءها في الجزائر، وأصدرت بيانات رسمية تتهم الجزائر بدعم الإرهاب والجماعات الانفصالية.
الجزائر أصدرت بيانا تقول فيه بأن إسقاط الطائرة تم بعد أن دخلت الأراضي الجزائرية بحوالي كيلومترين، وردت بالمثل على تصعيد الدول الثلاث، وكرست بذلك واقع توتر شامل مع حدودها الجنوبية.
التطور الثاني، وهو تواتر تصريحات من وزراء خارجية كل من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، أياما قبل إحاطة المبعوث الأممي لقضية الصحراء ستيفان دي ميستورا، تؤكد على أن المقترح المغربي للحكم الذاتي هو الخيار الجدي الواقعي لحل المشكلة.
المثير في هذا التطور، هو التواطؤ على طابع الاستعجال في حل نزاعه الصحراء، فوزير الخارجية الإسباني، تحدث بلغة مباشرة وصريحة بأن هذا الملف لا يمكن أن ينتظر إلى ما لا نهاية من الزمن، فقط لأن الأمر يتعلق بإرضاء الذين يرفعون شعارات فارغة، ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الذي استقبل وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة بواشنطن، كان الجميع ينتظر أن يبدد الالتباس حول موقف الإدارة الأمريكية من الصحراء، فلم يكتف فقط بتجديد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه، بل دعا الأطراف وبشكل فوري إلى الانخراط في إيجاد حل للصحراء على قاعدة المقترح المغربي للحكم الذاتي، بينما جدد وزير الخارجية الفرنسي موقف بلاده من الصحراء، وذلك في تزامن مع زيارته للجزائر من أجل تسوية التوتر بين البلدين.
التطور الثالث، وهو زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للجزائر والتي حظيت باحتفاء كبير، ولقاءات بعدد مهم من المسؤولين الجزائريين، بما في ذلك الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، دون أن يتم الكشف عن سياق الزيارة، وضمن أي أجندة جاءت، وأي أفق للتعاون بين البلدين لاسيما في هذه اللحظة التي تواجه فيها إيران تحديات متعاظمة، سواء من جهة فقدانها لحليف استراتيجي في سوريا، أو حصول تراجع استراتيجي لأحد محاورها في لبنان، أو خضوعها لضغط أمريكي وأوروبي فيما يخص برنامجها النووي، الذي رشح من هذه الزيارة مجرد عناوين عريضة تخص قضية غزة ومشروعية المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتعميق العلاقات الثنائية بين البلدين، بينما بقيت القضايا الأخرى بعيدة عن الإعلام.
تبدو هذه التطورات ظاهريا متباعدة، لكنها في الجوهر مترابطة، وتكشف عن تعاظم التحديات التي تعيشها الجزائر، لاسيما في تدبير العلاقة مع جنوبها، فقد تكشفت اليوم الأزمة مع دول تحالف الساحل، وكشفت عن أبعاد جديدة للخلاف الجزائري الروسي، لاسيما بعد انعقاد قمة رباعية جمعت روسيا بدول تحالف الساحل الثلاث في الثالث من أبريل الجاري بموسكو، وتعهد وزير الخارجية الروسي في هذا الاجتماع بتقديم الدعم المتعلق بالأمن والدفاع إلى هذه الدول، فروسيا لا تنظر لهذه الدول (مالي، والنيجر، وبوركينافاسو) فقط باعتبارها دولا خرجت عن الطوع الفرنسي، وأقامت تحالفا مع روسيا، ولكنها تنظر إليها باعتبارها مشروع بنية أمنية جديدة في المنطقة، مؤسسة على استقلال القرار السيادي، وعلى خدمة المصالح الوطنية ومناهضة الأجندات «الفرنسية» الاستعمارية.

المفارقة، أن الرباط، التي لم تكن في مستوى شراكة الجزائر مع موسكو، أضحت تحتفظ بعلاقة متميزة مع دول تحالف الساحل، بفضل المبادرة المغربية، بينما، تعيش الجزائر توترا معها، وهي التي تشترك معها في الشراكة مع موسكو.
يلتقي التطور الأول مع التطور الثاني، المتعلق بتصريحات وزراء الخارجية الفرنسي والإسباني والأمريكي بدعم المقترح المغربي للحكم الذاتي بوصفه إطارا للتفاوض والتوصل لتسوية للنزاع، في ثلاث نقاط أساسية، الأولى، وهو تباعد وجهات النظر بين موسكو والجزائر حول إشكالات المنطقة لاسيما قضية دول الساحل جنوب الصحراء، بل وحتى في ملف الصحراء بعد وصول العلاقات المغربية الروسية إلى مستويات متقدمة، والثاني، وهو نهاية مشروع الأنبوب النيجيري الجزائري، بحكم الأزمة مع النيجر، التي يفترض أن هذا الأنبوب سيمر مباشرة من أراضيها ليصل نيجيريا بالجزائر مما يعني خسارة الجزائر مليارات الدولارات في دراسة جدوى هذا المشروع والدراسات التقنية التمهيدية دون نتيجة، ويتعلق الثالث، بتراجع المزاعم التي ترى في أن واشنطن تدعم خيار تقسيم الصحراء، إذ تأكد بالملموس، بأن تصريحات وزراء الخارجية الأمريكي والفرنسي والإسباني، تصب كلها في رغبة دولية فورية لإنهاء ملف الصحراء، وفقا للمقترح المغربي، وقلق شديد من استمرار الملف من غير حل.
ما يؤكد ذلك، أن الجزائر شعرت هذه المرة بالخطر، وأصدرت بيانا في مواجهة الموقف الأمريكي، وانتقدت عليه تحيزه إلى المغرب، واستغربت أن يصدر هذا الموقف من عضو دائم بمجلس الأمن، معتبرة أن أي انحياز للمغرب بهذا الشأن لا يخدم تسوية النزاع.
تحليل تفاعل الموقف الدولي بهذا الشأن وطريقة تعاطي الجزائر مع هذه التطورات، تفيد بأن ملف الصحراء أوشك على الحسم، وأن ضيق مدريد وباريس وواشنطن بتمدد أجل حل هذا المشكل، ورغبتها في حل فوري له، أضحى يطرح أسئلة حول مهمة المينورسو وما إذا كانت ستتجدد أم لا، أم يحدد سقفا أخيرا لنهاية مهمتها مع قرار مجلس الأمن في منتصف أبريل الجاري.
الجزائر، تبعا للديناميات التي تجري في كواليس مجلس الأمن، أدركت هذه المرة أن الموقف الدولي تحول بشكل كامل، وأنها فقدت الحليف الاستراتيجي الذي يقيم التوازن في مثل هذه التحديات، ولذلك، اتجهت إلى التخويف بإيران، وتوثيق العلاقة معها، لتقوية ملفها التفاوضي مع واشنطن والدول الغربية، لاسيما وأن طهران تتطلع إلى تقوية نفوذها في إفريقيا، بعد أن اكتسبت مواقع مهمة بدعم جزائري في تونس وليبيا.
البعض يعتقد بأن الجزائر تريد أن تنوع مواردها العسكرية، ويستدل على ذلك بزيارة الفريق أول سعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الجزائري الممتدة إلى الهند في فبراير الماضي، ويعتبر أن زيارة وزير الخارجية الإيراني، جاءت ضمن نفس السياق، أي تعميق التعاون العسكري بين البلدين، والإفادة من الخبرة العسكرية الإيرانية لاسيما في مجال المسيرات والصواريخ المجنحة، وذلك بغية تقوية موقعها في ميزان الردع العسكري والاستراتيجي في المنطقة، لكن، يصعب قراءة الزيارتين بمعنى واحد، فالأولى، تأتي في سياق بحث الجزائر عن تنويع الشركاء في تملك القدرات العسكرية، وذلك بناء على تقييم يعتبر بأن وضع البيض كله في سلة موسكو، في الوقت الذي اتجهت فيه المغرب إلى تنويع شركائها، يصب في صالح المغرب الذي حقق تراكما كبيرا في تحديث قدراته العسكرية بناء على أحدث التطورات التكنولوجية، بينما زيارة وزير الخارجية الإيراني تأتي في سياق البحث عن خيارات للضغط وتقوية الموقع التفاوضي بعد الشعور بعزلة دولية وإقليمية قاتلة، بسبب انهيار أوراق اعتمادها في قضية الصحراء، وبسبب تعاظم التحديات الأمنية على حدودها الجنوبية.
في الواقع، بقيت أيام قلائل تفصل عن إحاطة المبعوث الشخصي للأمين العام في قضية الصحراء ستيفان دي ميستورا بمجلس الأمن، ومن المرجح أن قرار مجلس الأمن الجديد، فضلا مصير بعثة المينورسو، والسقف الزمني الذي سيحدد لمهمتها المقبلة، سيكشف الكثير عن تحولات الموقف، وما إذا كانت الجزائر خسرت أكثر من خمسة عقود في الاستثمار السياسي في الصحراء.

بلال التليدي

كاتب وباحث مغربي

نقلا عن القدس العربي

 

مقالات ذات صلة