عصيد: الحقائق لا تزعج الأمازيغ بل ما يؤذيهم هو العنصرية والتمييز وتحريف التاريخ

قبل عامين تداول بعض الناس مقالا غريبا لشخص يدعى عبد السلام أجرير بعنوان “حقائق قد تصدم بعض الأمازيغ”، يزعم أنه مختص في التاريخ، ولنا عليه بعض الملاحظات.
أولا على المستوى العام، المقال لا يندرج في إطار الكتابة العلمية التي تتوخى الموضوعية، بل يمكن تصنيفه ضمن الكتابات الإيديولوجية ذات الطابع التحريضي المتحامل.
ثانيا يعيدنا هذا المقال إلى نقاشات السبعينات والثمانينات، إذ يبدو أن هدفه هو تجاهل مسلسل مأسسة الأمازيغية ورعايتها وتوفير أسس النماء والتطور لها، ولهذا يفقد كل أهمية، حيث يبدو مجرد رد فعل انفعالي على الجهود التي تبذلها مؤسسات الدولة من أجل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية.
ثالثا يستعمل الكاتب بشكل لا جدوى منه نظرية المؤامرة ليوهم الناس بأن كل نهضة الأمازيغية اليوم مصدرها “أيادي أجنبية”، وهو أسلوب يهدف إلى صرف الأنظار عن السياق الداخلي، بتفاعلاته السوسيو-ثقافية والسياسية التي أدت بشكل تدريجي إلى الاعتراف التاريخي بأمازيغية المغرب بعد حوار فكري وطني ونضال جمعوي وسياسي دام نصف قرن بعد الاستقلال، وهو القرار السيادي الوطني الذي أزعج الكاتب ودفعه إلى كتابة ما كتبه.
رابعا على مستوى مضامين المقال:

– يقول الكاتب بعدم وجود ما نسميه “سنة أمازيغية”، ثم سماها “السنة الفلاحية”، وهو بذلك يقع في تناقض كبير، لأن ما سماه “سنة فلاحية” هو تقويم يوجد تحديدا في شمال إفريقيا الذي سماه المؤرخون العرب أنفسهم “بلاد البربر”، أي المجال البشري الحضاري والثقافي الأمازيغي، ومن المؤكد أنه لن يجد أي حرج في تسمية أي شيء موجود في جزيرة العرب ب “العربي”، كما أنه سيسمي ما يوجد في حدود بلاد فارس ب “الفارسي”، وهكذا.
وإذا كانت منطقة شمال إفريقيا قد استقبلت على مر التاريخ موجات من المهاجرين من مختلف الجهات، فمن المعلوم أنهم قد تطبعوا بثقافة السكان الأصليين وعاداتهم، ما يفسر أن القبائل العربية التي استوطنت المغرب منذ العصر الموحدي قد اعتمدت التقويم الأمازيغي مع السكان المغاربة الأمازيغ، وأطلقت عليه بجانب الأسماء الأمازيغية أسماء عربية أيضا.
أما عن العد الرقمي فمن المعلوم أنه أمر مواضعاتي conventionnel يتفق عليه الناس في لحظة معينة ويعتمدونه انطلاقا من رمز أو واقعة ما، فالتقويم الهجري لم ينزل من السماء بل لم يتم إقراره إلا في عهد عمر بن الخطاب الذي تقول المصادر إنه اجتمع مع أصحابه وقرروا اختراع تقويم خاص بهم من أجل التأريخ للمراسلات، واتفقوا بعد نقاش وخلاف فيما بينهم على اتخاذ الهجرة النبوية بمثابة حادث البداية من أجل العد الرقمي. ونفس الشيء فعله المسيحيون قبلهم وفعله الفرس والصينيون قبلهم أيضا، فكل قوم أرادوا إقرار تقويم خاص بهم كانوا يتخذون القرار بذلك ويتفقون على رمز أو واقعة ينطلقون منها، وقد اختار الأمازيغ واقعة اعتلاء الملك الأمازيغي شيشنق عرش مصر الفرعونية سنة 950 قبل الميلاد، لكونها إحدى أهم الوقائع لظهورهم على مسرح الأحداث في التاريخ القديم، فاقترن التقويم الفلاحي الأمازيغي مع العد الرقمي من تلك الواقعة، ولا أحد له الحق في العالم كله، أن يقول للأمازيغ ليس لكم الحق في ذلك الاختيار، لأن كل التقويمات الأخرى هي مجرد اختيار مواضعاتي على نفس المنوال.

– يقول الكاتب لا توجد كلمة “أمازيغ” في المصادر القديمة ثم يعود فيقول إن ابن خلدون هو الذي ذكرها، وهذا تناقض آخر لأنها إذا وردت عند ابن خلدون فلماذا يقول إنها غير موجودة في النصوص القديمة، من جانب آخر يغفل الكاتب عن جهل بأن في نصوص ما قبل ابن خلدون وما قبل الإسلام وردت تسميات كثيرة للأمازيغ ومنها “مازيس” التي هي نفسها مازيغ، مع العلم أن الأجانب لا يسمون الأمازيغ بالإسم الذي أطلقوه على أنفسهم بل بأسماء أخرى. بل إن الإسم الأصلي نفسه قد ينطق بأشكال مختلفة مثل “مازيس” و”ماشوش” حسب الألسن والثقافات.
كما تجاهل الكاتب ما ورد في كتاب “وصف إفريقيا” للحسن الوزان عندما تحدث عن لغة الأمازيغ التي سماها “اللسان الغربي” فيقول إنها تدعى “أوال أمازيغ”، وهذا قبل قرون طويلة. ورغم أن الكاتب يقول إنه أمازيغي إلا أنه يبدو غير ملم باللغة الأمازيغية التقليدية المتداولة بالعالم القروي منذ،أقدم العصور، والتي تضم كلمة “أمازيغ” بمعنى الحر بالنسبة للإنسان، والنقي غير الزائف بالنسبة للأشياء والنباتات، فاللوبان أمازيغ هو اللوبان الحقيقي غير الصناعي، و”إزري أمازيغ” هو نبتة الشيح البرية الحقيقية.
ثم قبل هذا وذاك، وجدنا كلمة أمازيغ معتمدة على نطاق واسع لدى سكان المغرب الأوسط الذين يسمون أنفسهم “إمازيغن” في مقابل “إسوسين” و”إريفين” التي تنسب السكان الأمازيغ إلى جغرافيا مناطقهم، بينما احتفظ أمازيغ الوسط بالإسم الأصلي، كما حافظوا على إسم اللغة “تمزيغت”. ولم ينتظروا نشأة الجمعيات التي يدعي الكاتب أنها صنعت الإسم من فراغ. وعموما فهذه مشكلة الشعوب التي لم تكتب تاريخها بنفسها وكتبه عنها الأجانب.
أما كلمة “بربر” فمن الغريب أن الكاتب يعتبرها من صنع الأجانب ثم يتحيز لها رغم أنه يعتبر نفسه من الأمازيغ، مع العلم أن الشعوب لا تقبل أن تطلق عليها نعوت قدحية. وهذه تناقضات تكشف عن نفسية تعاني من اضطراب وأزمة هوية لا تخفى عند الكاتب.

– بخصوص حرف تيفيناغ ارتكب الكاتب أخطاء بالجملة، حيث أطلق كلمة هزلية على أبجدية عريقة بقوله إنها “خربشات”، ولا نرى هنا أي أثر لتكوين علمي لدى الكاتب كما يدعي، حيث يعرف علماء الآثار والأركيولوجيا أن النقوش الصخرية هي أعرق مصادر دراسة ومعرفة اللغات والأبجديات العريقة في العالم كله، وقد أثبتت البحوث المنجزة حتى الآن بأن نقوش تيفيناغ تجسد أبجدية حقيقية تقابل أصواتا منطوقة في اللغة الأمازيغية، وأن مهدها وموطنها الوحيد بلاد شمال إفريقيا من ليبيا إلى جزر كاناريا، عبر الساحل وجنوب الصحراء، حيث عاصرت الأبجديات الهيروغليفية والكوشية والفينيقية والحميرية والآرامية والمسمارية، التي كان لكل منها موطنه الجغرافي الخاص، ومن الأخطاء التي صححتها الدراسات العلمية القول إن حرف تيفيناغ اشتق من الأبجدية الفينيقية، حيث إضافة إلى الاختلاف الموجود بين الأبجديتين، ثبت الآن وجود آثار الكتابة الأمازيغية بشمال إفريقيا قبل مجيء الفينيقيين.
كما توجد الكثير من النقوش المزدوجة التي تثبت وعي الأمازيغ القدامى بخصوصية أبجديتهم واختلافها عن الأبجديات المجاورة لها.
ومثلما من حق الأمازيغ اختيار رموزهم الثقافية، وإعادة قراءة تاريخهم، كان لهم الحق في اختيار حرفهم الأصلي لكتابة لغتهم في السياق المعاصر في المدرسة والفضاءات الرسمية، وبهذا عملوا على تنميط إملائية الكتابة وتدقيق حروف الأبجدية وملاءمة أشكالها الهندسية مع الحاجات التقنية للحاسوب، ومتطلبات العملية التعليمية، فنالت هذه الأبجدية اعترافا رسميا داخل المغرب وعبر العالم، وصار لها اليوم وجود في كل وسائط الاتصال الحديثة، وقد تبنى أمازيغ ليبيا أبجدية تيفيناغ التي أرساها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب، كما تنتشر حاليا في مختلف بلدان شمال إفريقيا. وبهذا انتقل حرف تيفيناغ من حرف ممنوع في الفضاء العام في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، إلى حرف رسمي يمثل اليوم الهوية البصرية للدولة. وكل هذا ينظر إليه ضحايا الإيديولوجيات العابرة للقارات بنظرة عدم الرضا، بسبب ضعف شعورهم بالانتماء إلى الأرض المغربية.

– أن حديث الكاتب عما سماه “الظهير البربري” يظهر جهله الكبير بهذه الوثيقة التي يسمع عنها دون يقرأها، حيث يتنافى مضمونها كليا مع ما ذهب إليه. والذي هو رواية سياسية تمت إشاعتها عبر تأويل الظهير المذكور، الذي لم يقم إلا بتنظيم المحاكم العرفية الأمازيغية التي كانت موجودة قبل مجيء الاستعمار بقرون، في المناطق القبلية التي كانت تعتمد قوانين عرفية خاصة في تدبير شؤونها، والتي لم تكن تريد التنازل عنها.

– جاء في كلام الكاتب خلط غريب بين الأكاديمية البربرية والكونغريس الأمازيغي، بينما لا علاقة بينهما لا من قريب ولا من بعيد. كما نسب إبداع العلم الأمازيغي إلى شخص إجنبي Jacques Bénet بينما مصممه معروف باسمه وهو المواطن القبايلي الجزائري يوسف مذكور سنة 1969.

خاتمة:
ليست الأمازيغية إيديولوجيا للتناحر، ولا هي ملك لتيار أو حزب أو طائفة، بل هي رمز للشخصية القاعدية للمغرب ولعراقته التاريخية، كما أنها اليوم سياسة للدولة المغربية ذات مرجعيات ومرتكزات ومبادئ، ونهضتها من نهضة المغرب المعاصر، ورهاناتها التنمية وإعادة تأسيس الوطنية المغربية من منطلق العدل والمساواة ورفع التمييز، حتى يشعر جميع المغاربة بالانتماء إلى الدولة الوطنية.
وأما الذين ما زالوا يحنون إلى النقاشات القديمة، أيام هيمنة إيديولوجيات سياسية اختزالية وإقصائية هبت بها رياح الشرق، فسيكون عليهم الالتحاق بالركب حتى لا يشعروا بالتيه والضياع.

أحمد عصيد

مقالات ذات صلة