التسجيل الانتخابي: حق، واجب، وبداية المشاركة الحقيقية

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

ليس التسجيل في اللوائح الانتخابية مجرّد خطوة إدارية تُنجز على عجل، أو إجراء تقني تتمه داخل مكتبٍ هادئ وتنساه بعد دقائق.

إنه إعلان أولي عن الوعي السياسي، وبداية فعلية لمسار المشاركة المواطنة، فكل التجارب الديمقراطية التي تُحتذى في العالم انطلقت من هنا: من قرار بسيط لشاب أو شابة يقولان فيه “أنا حاضر، وأنا معني بما يقع في هذا الوطن”، ومن دون حضور الشباب، تبقى الديمقراطية مبتورة، وتظل السياسة حكراً على من يتحركون حين ينام الآخرون.

الشباب المغربي اليوم يرفع مطالب كبرى وحقيقية: مدرسة قوية تعيد الاعتبار للجودة، منظومة صحية تحفظ الكرامة، عدالة اجتماعية توقف نزيف الفوارق، وسياسات اقتصادية تمنح الأمل، لكن هذه المطالب لا تتحقق بالصراخ على المنصّات، ولا بالاحتجاج الرقمي، ولا بالخطابات الغاضبة.
فالتغيير لا يأتي بالشعارات، بل بالممارسة، والسياسة ليست “فرجة” نتابعها من بعيد… السياسة مسؤولية يومية تبدأ من ورقة تسجيل وتنضج عبر صناديق الاقتراع.

من السهل أن نقول إن “النخب فاسدة”، وإن “الانتخابات مبيوعة”، وإن “الأحزاب فقدت مصداقيتها”. ولكن الأصعب — والأكثر مسؤولية — هو أن نسأل أنفسنا: هل شاركنا؟ هل سجلنا أسماءنا؟ هل ذهبنا يوم الاقتراع لنعلن موقفنا؟ المفارقة المؤلمة أن جزءًا واسعًا من الشباب يشتكي من السياسات العمومية، ومن ضعف التمثيلية، بينما لم يسبق له أن دخل مكتب التصويت.
فكيف يمكن أن نطالب بتغيير مسؤولين لم نشارك أصلاً في اختيارهم؟

العزوف ليس موقفًا سياسيًا، بل فراغ خطير، فراغ يُستغل من قبل من يجيدون ملؤه، فالسياسة، مثل الطبيعة، لا تقبل بالفراغ. حين يبتعد الشباب، يقترب الآخرون… الآخرون الذين يُستهدفون في كل موسم انتخابي لسهولة التأثير عليهم، ولأن وعيهم السياسي هش، وهكذا يصبح مستقبل البلاد رهين حسابات صغيرة، ومقايضات تافهة: صوت مقابل كيس دقيق، أو مقابل وجبة غداء، أو حتى طبق “كسكسو” نهار جمعة.
ومن يترك صوته فارغًا، فليعلم أن آخرين سيملؤونه بطريقة أو بأخرى.

ليس المطلوب من الشاب أن ينتمي إلى حزب، ولا أن يصفّق لسياسي، ولا أن يلتزم بلون سياسي معيّن. المطلوب فقط أن يكون حاضرًا، أن يمتلك قراره، وأن يعرف أن ورقة التصويت أقوى من آلاف التدوينات. التصويت ليس اختيارًا للمرشح المثالي — فالكمال غير موجود في السياسة — لكنه اختيار للأصلح، أو الأقل سوءًا، أو الأقرب إلى انتظاراتك. المهم أن تُعبّر، لأن أسوأ تعبير هو الصمت.

الوعي السياسي لا يُلقّن في المدارس فقط، ولا يتشكّل عبر النقاشات الافتراضية، بل يُبنى بالممارسة، الشاب الذي يدخل إلى مكتب التسجيل ويمضي اسمه يمارس أول فعل سيادي في حياته. والشاب الذي يقف يوم الاقتراع ليضع صوته يمارس أول تأثير مباشر على السياسات العمومية، هذه الممارسة، وإن بدت بسيطة، هي التي راكمت التحولات الكبرى في الدول الديمقراطية. فالتغيير الحقيقي لا يحدث دفعة واحدة، بل خطوة بعد خطوة، وصوتًا بعد صوت.

مسؤولية الشباب اليوم مضاعفة، ليس لأنهم الفئة الأكثر عددًا فقط، بل لأنهم الفئة الأكثر وعيًا بالمشاكل الحقيقية: الهجرة، البطالة، ضعف العدالة الاجتماعية، تراجع الثقة في المؤسسات، والهوة المتزايدة بين الدولة والمجتمع، لكن تحويل هذا الوعي إلى فعل يحتاج شجاعة. والشجاعة هنا ليست في الاحتجاج فقط، بل في المشاركة، أن تقول: “لن أترك مستقبلي بيد غيري”، أن ترفض أن تكون متفرجًا، وأن تصرّ على أن يكون لك مقعد داخل اللعبة الديمقراطية.

لا أحد يقول إن الديمقراطية خالية من العيوب، ولا أحد ينكر أن الممارسة السياسية في المغرب تحتاج إلى إصلاح عميق.
لكن الإصلاح لا يمكن أن يقوم به الغائبون، لا يمكن بناء مغرب جديد من دون شباب حاضر، ولو كان التصويت عديم الجدوى، لما نافس البعض على أصوات المواطنين بهذا الشكل المحموم، ولما بُذلت كل تلك الجهود لاستمالة فئات قابلة للتوجيه. هذا وحده يكفي لنعرف أن الصوت السياسي سلطة… وسلطة حقيقية.

التسجيل الانتخابي إذن ليس مجرد حق، بل هو واجب، واجب تجاه نفسك أولاً، وتجاه وطنك ثانيًا، هو رسالة تقول بأنك تريد مغربًا أفضل، وتدرك أن المشاركة لا تقل أهمية عن النقد. لأن النقد من الخارج لا يكفي… يجب أن يكون للجيل الجديد رأي داخل المؤسسات: في البرلمان، في الجماعات الترابية، في السياسات العمومية، وفي كل ما يخص مصير البلاد.

في النهاية، يبقى السؤال الجوهري: هل نريد أن نصنع المستقبل أم نكتفي بالتفرج عليه؟ التسجيل الانتخابي هو الجواب الأول لهذا السؤال، خطوة صغيرة في ظاهرها، لكنها بداية مسار طويل من التأثير والمواطنة الفعلية.

فالديمقراطية لا تُبنى بالفرجة، ولا بالتردد، بل بالحضور. وحين يحضر الشباب… يتغير كل شيء.

مقالات ذات صلة