حين تسأل المشاعر عن السياسة: قراءة في مؤلف حسن طارق

 

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

في زمن يفيض بالخطابات الباردة والحسابات الانتخابية الضيقة، يطل علينا الأستاذ حسن طارق بأطروحة شجاعة تقرأ السياسة من مدخل غير مألوف: مدخل المشاعر. فبينما اعتادت النخب السياسية والأكاديمية على التعامل مع السياسة بوصفها حقلًا للعقلانية الاستراتيجية والتدبير المحايد للمصالح، تأتي أطروحة طارق لتفكك هذا التصور وتعيد السياسة إلى حقلها الطبيعي: حيث يوجد الناس، بأحلامهم، مخاوفهم، غضبهم، وأوهامهم. هناك حيث تسكن العاطفة، لا كعرضٍ جانبيٍ أو فائض انفعالي، بل كأحد شروط الإمكان للسياسي نفسه.

بهذا الطرح، لا يكتفي طارق بإدخال العاطفة إلى النقاش السياسي بوصفها مكونًا طارئًا أو عارضًا، بل يضعها في صلب البناء السياسي، من حيث الشرعية والتعبئة والفعل الجماعي. إننا هنا أمام عودة إلى قلب الاجتماع السياسي، لا بوصفه تعاقدًا عقلانيًا بين أفراد متجردين من المشاعر، بل كمجال معقد تتشابك فيه الرموز والتجارب والذكريات الجمعية والانفعالات، لتنتج في النهاية شيئًا اسمه “السياسة”. لقد انتبه طارق، بذكاء تحليلي دقيق، إلى أن العاطفة لا تعارض العقل السياسي كما توهم بعض القراءات الوضعانية، بل هي تشتغل داخله، تحفّزه أحيانًا، وتقيّده أحيانًا أخرى، وتحوله إلى خطاب يُصدّق أو يُكذّب بناءً على مدى “صدقه العاطفي”.

حين تنزل السياسة من مكاتب التكنوقراط إلى ميادين الشارع، تجد العاطفة أول من يستقبلها. وحين يُطلق زعيم سياسي نكتة أو تدمع عينه في خطاب جماهيري، فإنه لا يتخلى عن السياسة، بل يمارسها على نحو أكثر تأثيرًا. وحين تحمل الجماهير صورة شهيد، أو ترفع شعارًا غاضبًا، أو تُشعل شمعة في ساحة عامة، فإنها لا تنفعل فقط، بل تعبّر وتفكّر وتفاوض – بلغة أخرى. إننا، إذن، أمام وسائط وجدانية جديدة تؤطر السلوك السياسي، وتجعل من الفعل الجماهيري مسرحًا لتجاذبات شعورية لا تقل أهمية عن التوازنات المؤسسية.

ولكن، وسط هذا الاعتراف المتزايد بدور المشاعر، يلوح سؤال مقلق: أليست المشاعر قابلة للتلاعب؟ أليس في تسليع الوجدان خطرٌ من أن يتحول إلى وقودٍ شعبوي؟ ألم تكن كاريزما الزعيم – في كثير من التجارب – مدخلًا إلى التسلط لا إلى التحرر؟ من هنا تأتي الحاجة إلى التمييز بين “العاطفة الديمقراطية” التي تعبّر عن الذات الجمعية وتبني الانتماء، و”العاطفة التسلطية” التي تُختزل في صورة الزعيم وتستبعد الآخر وتؤسس للولاء الأعمى. الفرق بينهما دقيق، لكن آثاره حاسمة: فإما أن تُصبح المشاعر لغة للمواطنة، أو تتحول إلى غريزة قطيعية لا تعرف غير التهليل أو الشتم.

ما تدعونا إليه أطروحة حسن طارق، في العمق، هو إعادة التفكير في مفهوم “العقلانية السياسية” نفسه. فهل العقلانية هي نفي العاطفة؟ أم أنها القدرة على تنظيمها وتوجيهها؟ لعل ما تحتاجه الديمقراطية اليوم ليس ترويض المشاعر، بل فهمها، لا احتقارها، بل إدماجها في آليات التعبير والتفاوض والاعتراف. وهذا يتطلب أدوات جديدة: علم اجتماع سياسي يأخذ الوجدان مأخذ الجد، ولسانيات خطاب تُحلّل اللغة العاطفية للسياسة، ونظرية ديمقراطية تُعيد الاعتبار للبعد الرمزي في الشرعية.

ولعل السؤال الأهم الذي تطرحه هذه الأطروحة بصوت خافت لكنه نافذ: هل نحن – في العالم العربي – نملك الشروط الثقافية والمعرفية لفهم المشاعر السياسية؟ أم أننا ما زلنا نحاكم السياسة بمنطق “النافع والضار” دون الانتباه إلى “المعنى والمغزى”؟ هل لا زلنا نُعامل الانفعالات باعتبارها تهديدًا للاستقرار، أم كمؤشر على الحاجة للاعتراف؟ حين تخرج الجموع إلى الشارع وهي تلوّح بصورة أو تُردّد نشيدًا أو تبكي بحرقة، فهل نقرأ هذا المشهد بلغة الأرقام أم بلغة التأويل الرمزي؟

أطروحة حسن طارق، إذًا، لا تفتح فقط سؤال العاطفة في السياسة، بل تضع السياسة نفسها موضع سؤال: كيف تُبنى الشرعية؟ وكيف يُصاغ العقد الاجتماعي؟ ومن يملك حق تمثيل الوجدان الجمعي؟ إنها دعوة لفهم السياسة بما هي أكثر من مؤسسات وبرامج: إنها فن الإصغاء إلى القلب الجماعي للمجتمع.

مقالات ذات صلة