طلوع يكتب.. المدرسة وسوق القيم: نحو تمغربيت تربوية جديدة

بقلم الدكتور طلوع عبدالإله – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

حينما تتحول عبارة “قلة الترابي” من مجرد توصيف شعبي لوقاحة الأفعال إلى مفهوم كاشف عن تصدّع عميق في البناء القيمي للمجتمع، نكون أمام لحظة تستدعي وقفة جادة للتفكير في مصادر هذا التصدّع وامتداداته التربوية والمؤسساتية.

كيف تحوّل الفضاء المدرسي، الذي كان يُنظر إليه كامتداد رمزي للأسرة، إلى حقل صراع مفتوح على العنف والانفلات؟

وهل يكفي أن نتحدث عن المدرسة بوصفها بوابة لسوق الشغل بينما نتجاهل موقعها المركزي في تشكيل الإنسان المواطن؟

إن ما يُفهم اليوم من دور المدرسة قد أضحى حبيس منطق الأدواتية الاقتصادية، حيث تُقاس جودتها بمدى قدرتها على تخريج أفرادٍ قادرين على الاندماج في سوق العمل. لكن، أليس في ذلك تبسيط فج لوظيفة تاريخية كانت المدرسة تضطلع بها، حين كانت تربي قبل أن تدرّب، وتبني قبل أن تُمكنن؟ لقد أُفرغت المدرسة تدريجياً من جوهرها الثقافي والتربوي، وصار الحديث عن “القيم” نوعاً من الترف الفكري في مواجهة “الواقعية الاقتصادية”. لكن، من قال إن الاقتصاد ذاته يمكن أن يقوم على المدى البعيد دون قيم؟ أليست الثقة، والنزاهة، والمسؤولية، هي المحركات الحقيقية لأي بنية اقتصادية مستدامة؟

في قلب هذه الأزمة، تطرح مسألة “الهوية” نفسها بإلحاح: ما معنى أن تكون مغربياً اليوم في زمن الشاشات، والعنف المدرسي، والمرجعيات المتشظية؟ ما الذي تبقّى من “تمغربيت” الأجيال السابقة؟ وهل يمكن إعادة بناء هذه الهوية على أرضية تربوية متجددة؟ إن الإجابة، في اعتقادي، لا يمكن أن تأتي من مجرد إصلاح بيداغوجي أو من إعادة النظر في البرامج والمناهج فحسب، بل من لحظة وعي وطني شامل بضرورة إدماج “سوق القيم” في مشروع المدرسة المغربية، أي أننا في حاجة إلى مدرسة تصوغ شخصية الإنسان المغربي القادر على الانفتاح دون أن يضيع، والملتزم دون أن يتحول إلى آلة طيّعة، والمدرك لحقوقه كما لواجباته.

المواطنة لا تُصنع في مدرجات الشرح فقط، بل تُبنى في تفاصيل العلاقة التربوية، في لغة المعلم، في قواعد الانضباط، في احترام الزمن المدرسي، وفي تنشئة تُعلي من شأن الحوار بدل العنف، والتفكير النقدي بدل التلقين. إننا بحاجة إلى تمغربيت تربوية جديدة، لا تكتفي بترديد الشعارات، بل تُمارَس في صمت المؤسسات والتفاصيل اليومية، تمغربيت تعترف بتعقيدات العصر وتتحرّك ضمنها دون أن تفقد البوصلة الثقافية.

هنا، يُطرح سؤال أكثر إزعاجاً: هل نملك اليوم، على مستوى السياسات العمومية، إرادة كافية لإعادة الاعتبار للقيم داخل المدرسة؟ هل نُعيد النظر في وظائف المدرسة فقط حين ينهار مستوى التحصيل، أم أن هناك وعياً بأن السلوك المدني، والانضباط، والتسامح، هي أيضاً مؤشرات جودة لا تقل أهمية عن المعدلات والدرجات؟ ثم من يُربّي من؟ هل الأسرة ما زالت فاعلة في التربية، أم أن وسائل التواصل الحديثة صارت الأسرة البديلة؟ وكيف يمكن للمدرسة أن تعيد بناء ما تهدم في البيت والإعلام؟

أسئلة مربكة نعم، لكنها ضرورية. لأننا إذا لم نجرؤ على طرحها، فسنستمر في استيراد حلول لا تشبه واقعنا، ونكرر الإصلاحات كما نكرّر الأخطاء. لا نريد مدرسة تنتج “موارد بشرية” فحسب، بل نريدها أن تُعيد إنتاج الإنسان، ذاك الكائن القادر على العيش المشترك، على الحلم الجماعي، وعلى إعادة تعريف التقدم من منطلق قيمي، وليس فقط مادي.

مقالات ذات صلة