الصحراء المغربية: منصة إستراتيجية للأمن والتنمية وعقيدة دبلوماسية ثابتة

لطالما كانت الصحراء المغربية، بجغرافيتها الشاسعة وموقعها الحيوي، نقطة تقاطع بين الرهانات الأمنية والتطلعات التنموية. واليوم، بشكل واضح وملموس، يعيد المغرب رسم معالم هذه المنطقة ليس فقط باعتبارها امتدادًا ترابيًا لسيادته الوطنية، بل كمنصة إستراتيجية ذات بعد إقليمي ودولي، تخدم الأمن، وتكرس الاستقرار، وتفتح آفاقًا واسعة للتنمية المستدامة. منذ سنوات، تبنى المغرب رؤية شمولية للصحراء، قوامها الاستثمار، البنية التحتية، والاندماج في السياسات الكبرى للمملكة. رؤية تترجم اليوم إلى مشاريع ملموسة: ميناء الداخلة الأطلسي، الطريق السريع تزنيت–الداخلة، ربط المنطقة بالشبكة الوطنية للكهرباء والماء، التحول نحو الطاقات المتجددة، ومناطق صناعية حديثة تستقطب استثمارات وطنية ودولية.

هذه المشاريع لا تندرج فقط ضمن إطار تنمية الأقاليم الجنوبية، بل تحمل رسالة واضحة: الصحراء المغربية ليست هامشًا جغرافيًا، بل مركزًا جديدًا للنمو، ومحركًا تنمويًا استراتيجيًا للمملكة، وجسرًا اقتصاديًا نحو إفريقيا جنوب الصحراء. ومع أن هذه الدينامية التنموية تندرج في إطار رؤية اقتصادية طموحة، إلا أنها لا تنفصل إطلاقًا عن بعدها الأمني. فالمغرب، انطلاقًا من استقراره السياسي ومؤسساته الراسخة، استطاع أن يحول الصحراء إلى نموذج للاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، وهي منطقة تعرف تحديات أمنية متصاعدة بسبب التهديدات الإرهابية، وتنامي شبكات التهريب والهجرة غير النظامية.

في هذا السياق، أضحى المغرب حاجز صد أمام محاولات زعزعة الاستقرار، بل وأصبح فاعلًا أساسيًا في هندسة التعاون الأمني الإقليمي. غير أن الأهم في المقاربة المغربية هو الربط العضوي بين الأمن والتنمية.

فمن منطلق قناعة راسخة بأن الأمن لا يتحقق بالوسائل الأمنية وحدها، بل بتمكين الإنسان، وتوسيع قاعدة المشاركة، وخلق فرص حقيقية للعيش الكريم، يحرص المغرب على أن تكون ساكنة الأقاليم الجنوبية في قلب القرار، من خلال المجالس الجهوية المنتخبة، والسياسات العمومية التي تراعي الخصوصيات المحلية، وتعزز من دينامكية الجهويات المتقدمة، كأحد أركان المشروع التنموي المغربي. وفي هذا الإطار، تندرج مبادرة الحكم الذاتي، التي طرحتها المملكة منذ 2007، والتي تعتبر حلًا واقعيًا وذا مصداقية، يحظى بدعم دولي متزايد.

هذا المقترح المغربي لا يشكل فقط أساسًا لتسوية النزاع المفتعل حول الصحراء، بل يترجم أيضًا فلسفة سياسية عميقة تتجاوز الحلول التقنية، إلى بناء نموذج حكم يستجيب لتطلعات السكان المحليين، ويضمن وحدة الدولة. ولعل أحد أبرز التحولات الإستراتيجية التي كرسها المغرب في السنوات الأخيرة هو بلورة عقيدة دبلوماسية ثابتة، رسم معالمها بوضوح الملك محمد السادس، وتتمثل في أن الصحراء هي المنظار الذي يرى به المغرب علاقاته الخارجية. لم يعد المغرب يقبل المواقف الرمادية أو المزدوجة من بعض الدول التي تسعى للعب على الحبلين، أو تبتغي الحفاظ على مصالحها مع المغرب دون الاعتراف بسيادته الكاملة على أقاليمه الجنوبية. بل إن المملكة أصبحت واضحة في رسائلها، حازمة في مواقفها: من أراد شراكة إستراتيجية مع المغرب، فعليه أن يكون واضحًا في موقفه من مغربية الصحراء.

هذا التحول ليس خطابًا سياسيًا عابرًا، بل عقيدة دبلوماسية راسخة، تشكل اليوم قاعدة للتفاعل المغربي مع مختلف الشركاء، سواء في إفريقيا أو أوروبا أو العالم العربي أو باقي القوى الدولية.

وقد أكدت المملكة مرارًا أن عهد المساومة والابتزاز قد ولى، وأن سيادة المغرب على صحرائه ليست موضوع تفاوض ولا مساومة، بل حقيقة تاريخية وقانونية وشعبية. ومن هذا المنطلق، بدأت ملامح اصطفاف دولي جديد تتبلور، حيث أعلنت العديد من الدول دعمها الصريح لمقترح الحكم الذاتي، وافتتحت قنصليات لها في العيون والداخلة، كتعبير عملي عن اعترافها بمغربية الصحراء.

كما شهدنا تحولًا نوعيًا في مواقف بعض القوى الكبرى، التي انتقلت من الحياد الغامض إلى التأييد الواضح. هذا التحول لم يكن ليتحقق لولا الوضوح الاستراتيجي الذي اختاره المغرب، والتماسك بين مؤسساته، والقيادة المتبصرة للملك محمد السادس.

وفي خضم هذه التحولات، أصبح من الجلي أن المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، ليس مجرد شعار وطني، بل واقع ميداني تؤكده الوقائع، وتعززه السياسات، وتدعمه الإرادة الشعبية القوية لأبناء الأقاليم الجنوبية، الذين أثبتوا ارتباطهم الوثيق بالعرش العلوي، ومشاركتهم الفاعلة في بناء نموذج تنموي ديمقراطي من داخل مؤسساتهم.

إن المغرب اليوم لا يدير الصحراء فحسب، بل يبدع فيها مشروعًا متكاملًا يعيد تعريف العلاقة بين الجغرافيا والسيادة والتنمية. مشروع يتجاوز منطق الدفاع إلى منطق البناء، ومنطق رد الفعل إلى منطق الفعل الاستباقي. وهو بذلك يقدم نموذجًا يحتذى في إفريقيا والعالم العربي، لبلد يواجه التحديات الكبرى بالتخطيط الاستراتيجي، والرؤية المتبصرة، والعمل الميداني.

وبذلك، فإن مستقبل الصحراء المغربية لا يقاس فقط بالخرائط، بل يقاس أكثر بما ينجز على الأرض، وبما تحققه المملكة من تراكمات سياسية وتنموية تجعل من هذه المنطقة قلبًا نابضًا لمغرب المستقبل، وواجهة مشرفة لقارة تتطلع بدورها إلى التنمية والاستقرار.

حسن قديم

مقالات ذات صلة