عيد بلا أضحية: الحكمة التي أربكت الشناقة وفضحت المتنطعين

طلوع عبدالإله – كاتب رأي

لم تكن الرسالة الملكية المؤرخة في 26 فبراير 2025 مجرد إعلان تقني أو قرار ظرفي، بل كانت لحظة مكاشفة أخلاقية وسياسية ودينية، استدعت من أمير المؤمنين، بصفته المقلد بالأمانة العظمى والمطوق بالبيعة الوثقى، أن يتقدم إلى شعبه الوفي بنداء غير مألوف: “دعوا عنكم شعيرة الأضحية هذا العام”.

وقد يبدو الأمر عند البعض جريئًا، وقد يُفهم عند آخرين على أنه مساس بعادة مستقرة، لكن من تدبر المقاصد، وقرأ الرسالة في سياقها، سيُدرك أن الملك لم يُقدم على هذه الخطوة إلا بعد تفكير ملي، وتردد جلي، واستشارة راجحة، ذلك أنه يعلم – ككل من يعرف هذا الشعب – أن الأضحية لم تعد مجرد سنة مؤكدة، بل تحولت إلى طقس اجتماعي ضاغط، ومناسبة يتقلب فيها الفقراء على مضاجعهم قهرًا، لا تقربًا.

لقد جاء هذا التوجيه الملكي مفعمًا بالروح المقاصدية للشريعة، حيث رفع الحرج عن الناس، ودرأ عنهم المفاسد، امتثالًا لقوله تعالى: “وما جعل عليكم في الدين من حرج”.
وتفاديًا لانفلات أسعار الأضاحي إلى مستويات فاحشة في ظل قطيع متناقص جراء توالي سنوات الجفاف، وفشل حكومي مؤكد في ضبط السوق رغم الدعم، كان لا بد من مبادرة من أعلى هرم الدولة، تحمي السلم الاجتماعي، وتكبح جماح التظاهر الاستهلاكي الذي يتحول في بعض الأحياء إلى إيذاء للجيران وإحراج للأطفال الفقراء الذين لا يجدون سوى البكاء أمام روائح الشواء.

نعم، قرار مثل هذا لا يُرضي الشناقة والغلاة، ولا المتنطعين، ولا أولئك الذين يخلطون التدين بالشكلانية، فينحرون العادة لا العبادة، لكنه قرار يعيد ترتيب الأولويات، ويجعل من إمارة المؤمنين حامية للعقيدة لا مكرسة للأذى باسم العقيدة.

لقد كان من الممكن أن يتسابق الناس إلى الأسواق، فتُنهك الأسر وتُستنزف المدخرات وتشتعل الأسعار، ويُقصى الفقراء من عيدهم مرة أخرى.
لكن المبادرة الملكية منعت ذلك، وامتصت التوتر قبل أن يستفحل، وكرّست فهمًا راشدًا للدين، ينطلق من الواقع ولا يعانده، يرفع الحرج ولا يصنعه.

ولعل ما قاله فقهاؤنا قديمًا من أن “الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة” يجد اليوم تطبيقه في قرار سياسي شرعي رصين، قُصد به جلب مصلحة عامة أكيدة، لا اجتهاد في ضررها.

من هنا، فإن احترام توجيه أمير المؤمنين، ليس فقط من باب الطاعة السياسية، بل من باب الامتثال الشرعي، والتقدير الواجب لقرارات تُتخذ من موقع المسؤولية، بعد استشارة العلماء، وقراءة المعطيات، ومراعاة أحوال الناس.

أما من يُصر على الذبح، في ظل هذا السياق، فليعلم أنه لا يمارس عبادة خالصة، بل يكرس إيذاء اجتماعيًا، ويكشف عن تدين مغشوش، يحتاج إلى علاج في الوعي قبل أن يحتاج إلى غفران من السماء.

إننا في عيد هذا العام أمام فرصة لمراجعة فهمنا للشعائر، وتحريرها من ضغوط العادة والواجهة، والعودة إلى جوهر الدين: الرحمة، والرفق، ورفع الحرج، وتقديم المصلحة العامة على أنانياتنا الصغيرة.

مقالات ذات صلة