“المواطنة بين الحداثة والتقليد: قراءة تحليلية في فكر عبد الله العروي”

بقلم: د. عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية
في خضم الإرباك الذي يعيشه الفكر العربي المعاصر، تبرز الحاجة إلى مساءلة المفاهيم التي جرى استيرادها من المدونة الليبرالية الغربية، وفي مقدمتها مفهوم “المواطنة”. فهذا المفهوم الذي يبدو في ظاهره بسيطًا ومباشرًا، يخفي خلفه بنية فلسفية وتاريخية معقدة، لا تستقيم إلا داخل سياق الدولة الحديثة كما تبلورت في التجربة الغربية. ولعل المفكر المغربي عبد الله العروي هو من بين القلائل الذين امتلكوا شجاعة نقدية كافية لتفكيك هذا المفهوم، ووضعه في إطاره التاريخي والفكري والسياسي، محذرًا من الاستعمالات السطحية والدوغمائية التي تعيد إنتاج التخلف بدل تجاوزه.
إن العروي لا ينظر إلى المواطنة بوصفها صفة قانونية أو بطاقة تعريف مدنية، بل كتحول عميق في بنية العلاقة بين الفرد والدولة. فالمواطن ليس مجرّد فرد يحمل جنسية، بل هو ذات واعية، مستقلة، فاعلة داخل نظام تعاقدي عقلاني، يخضع فيه الجميع لمنظومة قانونية متعالية عن الانتماءات العرقية أو الطائفية أو القبلية. وهذا التحول لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار دولة حديثة، ذات شرعية مستمدة من الإرادة العامة، وتقوم على أسس الحرية والمساواة والعقلانية والتاريخانية. من هذا المنطلق، يرى العروي أن الحديث عن المواطنة في السياق العربي – من دون توفر شروط الدولة الحديثة – لا يعدو أن يكون ترفًا فكريًا أو استعارة سياسية جوفاء.
ولأن العروي يفكر دائمًا في التاريخ ومن خلاله، فإن تفكيكه لمفهوم المواطنة لا ينفصل عن مشروعه الأشمل الذي صاغه في كتبه الكبرى مثل “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” و”مفهوم الدولة” و”السنة والإصلاح”. في هذا المشروع، يُميز العروي بين ما يسميه بـ”الاختيار الحداثي” و”الاستمرارية التقليدية”. فالاختيار الحداثي يتطلب إرادة واعية للقطع مع الماضي كمرجعية سياسية، وليس فقط كمكون ثقافي، وهو ما يستوجب إعادة بناء الفضاء العمومي على قاعدة التعاقد الاجتماعي لا على قاعدة الولاء التقليدي. أما الاستمرارية التقليدية، فهي استسلام لأوهام الأصالة، ورفضٌ للتحول التاريخي، وتسويغٌ دائم لإبقاء المجتمع في حالة قُصور دائم.
إن العروي، إذ يدعو إلى “القطيعة الإبستيمولوجية” مع الماضي، لا يفعل ذلك من موقع العداء للهوية أو الذات، وإنما من منطلق الوفاء للزمن. فالمواطنة، بحسب منطقه، ليست ممكنة إلا بقدر ما يتم الاعتراف بزمنية المفاهيم، أي بإمكانية انتقالها من سياق إلى آخر عبر وسيط تاريخي محدد. ومن هنا تأتي مركزية “التاريخانية” في مشروعه الفكري: لا يمكن أن نفهم الحاضر إلا من خلال وعي تاريخي صارم يضع كل مفهوم في سياقه الزمني الخاص. أما محاولات إسقاط مفاهيم حداثية على واقع ما قبل حداثي، فهي لا تنتج إلا الكاريكاتور الفكري، والنفاق السياسي.
في ضوء هذا التحليل، تبدو المواطنة – في فكر العروي – كمشروع مؤجل، معلق، ينتظر لحظة تحقق الدولة العقلانية الحديثة. ولكنها ليست طوباوية أو حلما مستحيلاً، بل هي أفق واقعي، يمكن بلوغه إن توفرت الإرادة السياسية والنخبة المتنورة، والمجتمع القادر على إعادة النظر في تمثلاته للسلطة والدين والتاريخ. فالمواطنة ليست مجرد نتيجة، بل هي عملية مستمرة من التفكيك وإعادة البناء، من المقاومة والتنوير، من النقد والاقتراح.