ميمونة الحاج داهي تكتب.. بذخ السياسة وسياسة البذخ

ميمونة الحاج داهي
ميمونة الحاج داهي
أحاول أن أفهم.
أُحاول، بصدق، أن أجد تفسيرًا لهذا المشهد الذي انتشر على وسائل التواصل: رئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد، يستقبل رئيس الحكومة عزيز أخنوش، في قاعة أشبه بما نراه في الفنادق الفاخرة أو قصور الخليج المذهّبة، وأمامهما مائدة عامرة بما لذّ وطاب من تمر فاخر، حلوياتٍ متنوّعة، مشروباتٍ مُبرّدة… كلها مصفوفة كأننا في عيدٍ صغير خاص بالسلطة.
أُحاول أن أفسر، ولا أريد أن أقفز مباشرة إلى كلمة “تبذير”.
لكن، دعونا نفكّر سويًا، بعقل بارد ولو للحظات.
ما الهدف من هذه المبالغة في البهرجة؟
هل كانت هناك مناسبة رسمية تستدعي كل هذا الاستعراض؟
هل سيخرج من هذا اللقاء قرارٌ مصيريّ يُنقذ البلاد؟
هل سنستفيق غدًا على انخفاضٍ في أسعار الأضاحي أو فتحٍ لفرص العمل أو إصلاحٍ في المدرسة والمستشفى؟
لا شيء من ذلك.
ما رأيناه هو استعراض بصري، لا يضيف شيئًا إلى رصيد الثقة، بل يوسّع الهوة بين المواطن وصانع القرار.
إنها صورة تقول لنا: “نحن هنا، في نعيمنا”، بينما أنتم “هناك، في صمتكم”.
ما أثارني في الصورة، ليس التمر ولا فخامة المكان ولا التزيين الفاخر.
بل الإحساس العميق بأن هناك انفصالًا شبه كامل بين السلطة وواقع الناس.
نحن في بلدٍ لم يعد فيه العيد متاحًا للجميع.
تخلينا عن الأضحية بسبب أزمة سببها سوء التدبير.
نتقشف في الماء، لا تربيةً على المواطنة، بل لأن الفرشة المائية تنضب والصنابير تجفّ.
شبابٌ عاطل، مدارسٌ تنهار، مستشفيات لا تعالج إلا الانتظار، جيل كامل يتجه بسرعة نحو الهاوية فكريا و أخلاقيا..
ومع ذلك، ثمة من يرى أن “الصورة الفخمة” تليق بنا.
لكن ما لا يدركه هؤلاء، هو أن في علم السياسة، الرمزية أخطر من التصريحات.
الصورة ليست حيادية.
الصورة رسالة، وكل ما فيها يُقرأ: الألوان، الأثاث، الأطباق، حتى الابتسامات المُصطنعة… كل ذلك يدخل في تحليل السياسات الرمزية للدولة.
فحين تُبنى الثقة على الرموز، تنهار بسهولة حين تتناقض الرموز مع الواقع.
أليس غريبًا أننا نرى رئيسَي مؤسستين دستوريتين يجتمعان وسط هذا البذخ، بينما المؤسسات نفسها تعاني فقدانًا للمصداقية؟
هل نسينا أن أكثر من نصف المغاربة لا يثقون في الحكومة؟
أن البرلمان أصبح بالنسبة للكثيرين مجرد مؤسسة لتزكية ما يُقرَّر في مكان آخر؟
فماذا يعني هذا البذخ إذا؟
أهو محاولة لتجميل وجهٍ فقد جاذبيته؟
أم هو نوع من العمى السياسي، حين تصبح المظاهر بديلا عن الإنجاز؟
ثمّة مفارقة جارحة هنا:
الذين يُطالبوننا بالتحمل، بالصبر، بالوطنية، بالتقشّف…
هم أنفسهم من يُرسلون لنا صورا لا تنتمي لا للصبر ولا للوطنية، بل تنتمي لطبقة سياسية تحصّنت وراء الزجاج العازل للواقع.
وأسأل نفسي… وأسألكم معي:
هل فقدنا البوصلة إلى هذا الحد؟
هل صرنا نحكم من فوق، وننظر إلينا نحن الناس العاديين كأننا مجرد ديكور لمشهد سياسي لا نستحق أن نشارك في إخراجه؟
إن أخطر ما في هذا المشهد، ليس ما يظهر فيه، بل ما يكشفه عن نظرة بعض مسؤولي الدولة لأنفسهم… ولنا.
أن يُنظر إلى المنصب كامتياز لا كمسؤولية،
وإلى المواطن كـ “متلقٍّ”، لا كصاحب حقّ.
لكننا لسنا متلقين.
نحن شعبٌ يفكر، يرى، يُقارن، يتألّم… ويحتفظ في ذاكرته بصورٍ كهذه، لا تنسى بسهولة.
لذلك، لا، لسنا سذّجًا.
نعرف أن وراء كل مائدة عامرة، حسابًا سياسيًا.
وراء كل صورة فاخرة، حكاية صراع على السلطة، ومحاولة يائسة لصناعة وهم الإنجاز.
لكننا تعبنا من الوهم.
نُريد سياسة حقيقية… لا مهرجانات بصرية.
نُريد مسؤولين يعرفون أن الرمزية تُلزم.
وأن الفخامة في زمن الهشاشة… ليست إلا صفعةً ناعمةً على وجه وطنٍ متعب.
ميمونة الحاج داهي

مقالات ذات صلة