أزمة النظام في فرنسا: اللايقين السياسي وتشظّّي المشهد الحزبي
هناك من وصف ما حدث في فرنسا بالكابوس الديمقراطي، أو بالزلزال السياسي العاصف، فلا أحد كان يتوقّع أن يُقدم الرئيس إيمانويل ماكرون على قرار حلّ الجمعية الوطنية، في سياقٍ دقيقٍ وحاسم في المستويَين، الداخلي والخارجي، بحكم تداخل التحدّيات وتعالق الأزمات وتشاكلها.
القرار، وفيما يشبه ردّة فعل انفعالية أو ارتجالية، أحدث هزّة، بل صدمة قويّة وحقيقية في المشهد السياسي الفرنسي، الذي تعرّض بشكل خطير وغير مسبوق لاختلالٍ في التوازن السياسي الهشّ أصلاً. وبدا واضحاً أنّ ماكرون، بقراره ذاك، قدّم نفسه بديلاً وحيداً وملاذاً أخيراً للقوميين والشعبويين، خاصّة عندما تنشب الأزمات وتحتدّ، بل سوّق نفسه رجلَ الإطفاءِ الأكثر فعّالية، لكن، المهووس بإشعال الحرائق السياسية والدبلوماسية، فعندما دعا إلى تنظيم انتخابات سابقة لأوانها فهو، منطقياً، جازف بإنهاء ولايته الثانية بالتعايش مع حزب التجمّع الوطني اليميني المُتطرّف، إذا صدّقنا ما تنشره مؤسّسات استطلاع الرأي.
وفي مدّةٍ لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، يصعب على أيّ مشهد سياسي أو حزبي، كيفما كانت شروطه ووضعيّته التنظيمية، أن يُحضّر نفسه بشكل جيد لخوض استحقاق من هذا الحجم، علماً أنّه من الناحية المؤسّساتية، وحتّى السياسية والدستورية، لم يكن هناك ما يجبر ماكرون على اتخاذ قرار انتحاري قد يجرّ وراءه مضاعفات سياسية ومؤسّساتية يصعب تحمّلها.
والملاحظ، هنا، أنّ الرئيس ماكرون وضع كلّ خصومه في موقع المواجهة، وفضّل الانتصار للسيناريو المُتطرّف والأشدّ راديكالية لإنقاذ ما تبقّى من الماكرونية، حسب تقديره.
وتأتي هذه التطوّرات، قبل أسابيع من احتضان فرنسا دورة الألعاب الأولمبية، وفي خضمّ أزمات دولية مُستفحِلة ومعقّدة، كما هو الشأن في أوكرانيا، والشرق الأوسط، خصوصاً في فلسطين ولبنان. هناك من اعتبر قرار ماكرون غيرَ مسؤولٍ بالمرّة، لأنّ المصلحة الوطنية في فرنسا تقتضي وتُملي في هذه الظرفية استقرار البلاد، وليس إغراقها في مستنقعٍ من الشكوك، وزجّها في نفق من اللايقين السياسي.
فمباشرة، بعد قرار حلّ الجمعية الوطنية، شعر الفرنسيون بالخوف، ووجدوا أنفسهم عراةً في مواجهة المجهول. وظهر جليّاً من خلال ردّات الفعل، والنقاشات في البرامج الحوارية وشبكات التواصل الاجتماعي، أنّ فرنسا دخلت فعلاً في أزمة سياسية، هي أزمة نظام افتقد المرونة والخيال، والقدرة على الحفاظ على حيوية المؤسّسات وفعاليّتها، وتنشيط الحوار السياسي بين مكوّنات المشهد الحزبي، وتعزيز التسامح والتواصل بين أعضاء المجموعة الوطنية، بشتّى خصوصياتها ومميزاتها، وأطيافها الثقافية والعقائدية. لقد فُسّرت خطوة الرئيس تجسيداً صارخاً للنزعة السلطوية، وانحيازاً مكشوفاً للمعسكر الشعبوي، الذي يتدثّر بخطاب الوطنية الفرنسية اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً.
لقد باتت الهشاشة السمة الطاغية في المشهد الحزبي الفرنسي، وحتّى المسافة القصيرة، التي كانت تفصل الجمهوريين، ورثة الديغولية، عن اليمين المُتطرّف، انهارت بالكامل بعد إعلان زعيم حزب الجمهوريين، سابقاً، إيريك سيوتي، اصطفافه إلى جانب حزب التجمّع الوطني، والتحالف معه في استحقاق التشريعيات المُبكّرة.
ومن شأنه هذا أن يمنح حزب مارين لوبان إمكانياتٍ أكبر وحظوظاً أوفر لحصد مقاعدَ إضافيةٍ قد تضعه في الطريق المؤدّي إلى قصر ماتنيون؛ مقرّ الوزارة الأولى. ومن ثمّ التحكّم في دواليب الجهاز التنفيذي.
وخلافاً لحسابات الرئيس وتقديراته المزاجية، ليست هناك ضماناتٌ ومؤشّراتٌ واضحة، بمقدورها أن تمنع أو تحول دون وصول حزب التجمّع الوطني إلى تحقيق مقاصده وأهدافه السياسية، في حال تمكّنه من الحصول على أغلبية مطلقة أو عبر تحالفاتٍ مع مكوّنات وتيّارات تتقاطع معه أيديولوجيّاً وبرامجيّاً.
ولتفادي وقوع هذا الكابوس الديمقراطي، وهذه الرِدّة السياسية، يبدو لدى شرائح واسعة من الفرنسيين، خصوصاً المدافعين عن قيم الجمهورية وإرث الثورة الفرنسية، أنّه ليس هناك من مخرج آمن سوى الانتصار منذ الدور الأول لقطع الطريق على حزب التجمّع الوطني.
وهذا هو رهان الجبهة الوطنية الجديدة المُشكّلة من عدة أحزاب وتنظيمات وتيّارات ومن نُخَب اليسار. وما يضمن لهذه الجبهة حظوظاً في إحداث المفاجأة السارّة، وإطاحة أوهام معسكر اليمين وحلفائه، هو إعلان الكونفدرالية العامّة للشغل؛ أقوى مركزية نقابية تاريخيّاً، دعمها ومساندتها الصريحة، وللمرّة الأولى، الجبهة الشعبية الجديدة.
وبعد انطلاق الحملة الانتخابية، وعرض مضامين برامج الأحزاب المتنافسة في هذه الانتخابات، تكثّف الجبهة الشعبية الجديدة جهودها، وتحرص على الحضور في كلّ الجبهات والجهات لحمْل الناخبين الفرنسيين، سيّما الكتل المتردّدة في التصويت لصالح مشروعها السياسي، ما يؤمّن لها المرور إلى الدور الثاني. لذلك، قرّرت مكوّنات الجبهة الشعبية النزول إلى ساحة التنافس بكلّ ثقلها، ورمزيّتها التاريخية والاجتماعية والأخلاقية، لكسب هذا الرهان المصيري والحاسم، علماً أنّ الرئيس ماكرون يراهن على تفكّك مكوّنات الجبهة الشعبية الجديدة، وعلى دخولها في صراعات جانبية وحسابات ضيّقة.
وهذه الاستيهامات والهواجس تدغدغ أيضاً جزءاً من الاشتراكيين الديمقراطيين، خاصّة الذين يعتبرون معادة السامية بنداً مُقدّساً ومقتضى أساسيّاً، من دونه لن يكون هناك تفاهمات ولا اتفاقات ولا توافقات مع مكوّنات الجبهة الشعبية الجديدة، بل أكثر من هذا، شنّت معظم وسائل الإعلام الفرنسية المناصرة للسردية الإسرائيلية حملةً هوجاء لشيطنة حزب فرنسا الأبيّة واتهامه بمعاداة السامية، وباعتباره حركة حماس حركة مقاومة وليست تنظيماً إرهابياً، علاوة على التشهير بجون لوك ميلانشون، أحد أكثر الرموز التاريخية لفرنسا الأبيّة، واليسار الفرنسي عموماً، أهمّيةً، الذي يُنظَر إليه كابوساً مزعجاً لمعسكري الرئيس واليمين، ولجزء من اليسار الذي صنع إيمانويل ماكرون.
ويمكن اعتبار ما قاله الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، في حقّ ميلانشون استفزازاً مقصوداً، وهجوماً ممنهجاً، الغرض منه إحداث تشويش وبلبلة، ودفع الزعيم التاريخي لحزب فرنسا الأبيّة إلى اتخاذ مواقف أكثر راديكالية وتشدّداً، قد تؤثّر في مستقبل الجبهة الشعبية وتحالفاتها. ولا يُستبعد في هذا السياق أن يكون الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون قد نسّق مع هولاند، بما في ذلك حسم ترشّحه لخوض معركة الانتخابات التشريعية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاتفاق الذي وقّعت عليه مكوّنات الجبهة الشعبية، بما في ذلك الحزب الاشتراكي، الذي كانت تربطه علاقة متوتّرة مع حزب فرنسا الأبيّة، أظهر بجلاء أنّ اليسار قادر على تشكيل تكتل موحّد، لمواجهة انزلاقات (وانزياحات) الجمهورية الخامسة، التي تدلّ مجموعة من المُؤشّرات على أنّها في حاجة إلى إصلاحات عميقة، دستورية ومؤسّساتية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
كما أنّ هذا التكتّل اليساري أظهر أنّه قادر أيضاً على احتواء انقساماته التي تضرّر منها كثيراً فيما مضى من المواعيد السياسية والانتخابية. استحضار مفهوم، أو صيغة الجبهة الشعبية، التي سبق أن تشكّلت في فرنسا في 1936، ليس مُجرّد حنين أيديولوجي إلى فترة تاريخية مشرقة من الناحية السياسية والثقافية، بل هو خيار استراتيجي ومصيري فرضته الظروف والسياقات السياسية الخطيرة الراهنة.
ولا يمكن الجزم مطلقاً بأنّ الوصول إلى هذه المحطّة، رغم المخاطر المحدقة بها، يُعدّ نهاية المعركة، فهناك جهد كبير وتضحيات جسيمة وتنازلات متبادلة لا بدّ منها للحفاظ على انسجام وصلابة مكوّنات الجبهة. كما أنّ هذا المسار، الذي اختارته مكوّنات اليسار، لا يمكن أن يتطوّر ويُثمر ويتقوّى إلّا في حالة التحرّر والتخلّص من آثار الجروح والندوب العميقة التي خلّفتها محطّات كثيرة، كان آخرها حملة الانتخابات الأوروبية.
وما يثير الانتباه في تجاذبات الحقل السياسي الفرنسي، واصطفافاته والتباساته، انخراط مؤسّسات استطلاعات الرأي في ترجيح كفّة اليمين المُتطرّف ومنحه الأفضلية، مدعومة بذلك بعمل غير أخلاقي لعدد من وسائل الإعلام والمُحلّلين، الذين أصبحوا بمثابة مليشيات أيديولوجية، تؤثّث بلاتوهات التلفزيونات والإذاعات، خاصّة الإخبارية، والرسالة المُقدّسة المشتركة بين هؤلاء هي تحويل معادة السامية شرطاً لاكتساب صفة المواطنة الفرنسية، وتملّك واحترام قيم الجمهورية.
تأسيساً على ذلك، اتفقت هذه المليشيات على تقزيم الزعيم التاريخي لحزب فرنسا الأبيّة ميلانشون وتشويهه، وعلى العمل على تبخيس مواقفه، واتهامه بمناصرة الفلسطينيين. ولا تتردّد هذه المليشيات في إسداء النصح لمكوّنات الجبهة الشعبية، وفي تحريضها وحضّها على التقيّد بهذه الاستراتيجية، لأنّها، حسب رأيها، السبيل الوحيد لتجاوز جملة من المصاعب والمتاعب، بل تعتبر هذه المليشيات “فرنسا الأبيّة” كميناً يمكن أن يُفجّر ويُفكّك جزءاً من مكوّنات الجبهة الشعبية.
يحدث هذا رغم أنّ هذا الحزب، وفي إطار الحفاظ على تماسك الجبهة الشعبية الجديدة وتناغمها، التزم بما اعتبره الموقّعون ميثاق الجبهة خطّاً أحمرَ لا يمكن تعدّيه، ولا المساومة بشأنه، وفي مقدّمة ذلك مكافحة كلّ أشكال العنصرية ومعاداة السامية وكراهية الإسلام، وإدانة هجوم “حماس” في 7 أكتوبر (2023) على مستوطنات غلاف غزّة.
واقترحت الجبهة وقفاً لإطلاق النار في القطاع، ووقف الدعم الفرنسي لحكومة نتنياهو اليمينية المُتطرّفة، وإنفاذ أمر محكمة العدل الدولية، الذي يشير بشكلٍ لا غبار عليه إلى خطر الإبادة الجماعية في غزّة. كما اتفقت مكوّنات الجبهة على دعم أوكرانيا في حربها ضدّ روسيا، والدفاع عن سيادتها وحرّيتها وتوفير الأسلحة اللازمة لها، وإلغاء ديونها الخارجية.