الحركة النقابية في المغرب: حصن الكرامة أم مؤسسة في مفترق طرق؟
في خضم التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة، ومع تراجع دور المؤسسات الوسيطة وضعف تأثير الأحزاب السياسية، يظل السؤال حول الضامن الأخير لتوازن المجتمع قائما بإلحاح. على الرغم من الانتقادات المتعددة التي تطالها، تثبت التجربة المغربية أن الحركة النقابية لا تزال تشكل القوة الأكثر تنظيما وقدرة على الدفاع عن الحقوق، لتغدو عمليا الحصن الأخير للكرامة الإنسانية في مواجهة الحسابات المادية الجافة.
من فرد منعزل إلى قوة جماعية (I)
لطالما تجاوز الدور النقابي في المغرب كونه مجرد آلة للمطالبة بزيادة الأجور. تاريخيا، كانت النقابات هي الفضاء الذي تشكلت فيه الهوية الجماعية للشغيلة المغربية. داخل هذا الإطار، يكتشف العامل والموظف أنه ليس رقما معزولا في سجل الرواتب، بل جزء من قوة منظمة تملك حق المساومة. هذا التحول من “الفرد المجزأ” إلى “الوعي الجماعي” هو الذي منح الطبقة العاملة الوزن والقيمة، حيث أعادت تعريف العمل كحق جوهري وليس مجرد “تكلفة إنتاج” يجب تقليصها. والأهم أن النقابات أثبتت قدرة فائقة على الصمود، سواء في وجه القمع التاريخي خلال سنوات الرصاص أو في وجه التفكيك الذي فرضته السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المتعاقبة. فعندما تتبخر وعود الحكومات وتتراجع الضمانات الاجتماعية، تظل النقابة هي الملاذ القانوني والتنظيمي الذي يعود إليه الناس لاستعادة ميزان القوة.
توسيع الأجندة: ما بعد الأجر (II)
إن سر عودة الناس إلى النقابات في كل أزمة يكمن في إدراكهم أن مفاوضة الإدارة بصوت جماعي هي الضمانة الوحيدة لانتزاع الحقوق. العامل وحيدا يخسر نصف قضيته؛ ممثلا عن إرادة جمعية، يحول النزاع إلى قضية مبدأ. ومن هنا، تجاوزت أجندة الحركة النقابية المطالب المادية الصرفة إلى التدخل في قضايا وطنية أوسع. فالنقابات أصبحت فاعلا رئيسيا في:
- مقاومة الفساد: خصوصا في دواليب الإدارة والصفقات العمومية.
- الدفاع عن الحريات: والمساهمة في تطوير مدونة الشغل والقوانين الاجتماعية.
- التعبير السياسي: كقوة ضاغطة وموازنة للسلطة التنفيذية والتشريعية.
تحدي التجديد في ظل الاحتقان الاجتماعي وتراجع الدور (III)
اليوم، يدخل المغرب مرحلة جديدة من الاحتقان الاجتماعي تتفاقم بفعل موجة التضخم وارتفاع القياسي للأسعار، وتراجع آليات الحوار الاجتماعي الثلاثي عن تحقيق نتائج ملموسة. وفي هذا السياق، يبرز التحدي الأهم أمام الحركة النقابية: هل ستتمكن من تجديد آلياتها وخطابها لمواكبة هذا الغضب؟ لقد كشفت التجارب الأخيرة في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة عن حقيقة مفادها: حين تضعف النقابة، يتحول الغضب إلى احتجاجات فئوية عشوائية (التنسيقيات)، تستهلك طاقتها بلا جدوى. خير دليل على ذلك، الإضرابات المتكررة للأساتذة في قطاع التعليم التي قادتها التنسيقيات بعيدا عن المركزيات النقابية الكبرى، وأيضا احتجاجات الأطباء المتصاعدة للمطالبة بتحسين ظروف العمل والتحفيز. هذه الحركات دليل على أن القواعد لم تعد تنتظر قرار الهياكل التقليدية.
وفي المقابل، يزداد المشهد تعقيدا بتسجيل تراجع ملحوظ في دور المركزيات النقابية الكبرى أمام القرارات الحاسمة للحكومة. وقد تجلى ذلك بوضوح في تمرير القانون التكبيلي للإضراب من طرف الحكومة دون الرجوع إلى النقابات بآلية التشاور المعهودة، لتظهر الحركة النقابية وكأنها “لم تحرك ساكنا” أمام هذا التحدي التشريعي الذي يهدف إلى تقييد أحد أهم حقوق الشغيلة. هذه الواقعة تضع مصداقية النقابات في مفترق طرق حقيقي.
إن مستقبل المغرب الاجتماعي والاقتصادي رهين بقدرته على إحياء حوار اجتماعي صادق، يعترف بأن الإنسان العامل هو شريك أصيل في التنمية، وليس مجرد مدخل في معادلة إنتاج. وهذا يتطلب من الحركة النقابية:
- الاستقلالية المالية والقرار: تحصينها ضد أي تبعية سياسية أو إدارية.
- توسيع القاعدة: مد جسور التواصل مع الفئات الهشة والشباب والعاملين في القطاع غير المهيكل.
- تطوير الأدوات: تبني مقاربات جديدة للدفاع عن الحقوق في ظل التحولات التكنولوجية وسوق العمل المتغير.
دعوة لإعادة اكتشاف الدور التاريخي (VI)
في الختام، النقابة ليست مجرد شعار أو مبنى، بل هي ذاكرة نضالية حية، ومفهوم متجذر للعدالة، وهي الصوت المنظم الذي يجب أن يرتفع بكلمة “لا” مدوية حينما يصبح الصمت مسايرة أو تواطؤا. الحركة النقابية اليوم مدعوة لإعادة اكتشاف دورها التاريخي كقوة ضامنة للكرامة والعدالة الاجتماعية في مسار النموذج التنموي الجديد للمغرب. وهذا لن يتم إلا عبر استعادة الثقة في الداخل، والتحلي بالشجاعة الكافية لمواجهة القرارات الجائرة، كما حدث في قضية قانون الإضراب، حتى تثبت مرة أخرى أنها الحصن الأخير الذي يظل صامدا للدفاع عن كرامة الإنسان.



