“التاريخانية كأخلاق للوعي: عبد الله العروي وتمرين الخروج من السكون الثقافي”

بقلم: د. عبدالإله طلوع، باحث في القانون العام والعلوم السياسية
في لحظة فكرية مأزومة يهيمن عليها الحنين إلى الماضي أو القفز نحو طوباويات المستقبل، كان عبد الله العروي يكتب بلغة ثالثة، لا تمجّد الأصول ولا تسبّ الحاضر، بل تقترح إعادة بناء الذات عبر ما يسميه بـ”الوعي التاريخاني”.
لقد كانت “التاريخانية” عند العروي ليست مجرد موقف أكاديمي، بل تمرينًا فلسفيًا في مغادرة البلادة الذهنية والخضوع لجبرية الزمن.
الوعي التاريخاني: معركة مع الوهم
في قلب فكر العروي، تقوم التاريخانية كأداة منهجية لتحرير الوعي من أوهام الثبات.
فنحن، حسب رأيه، نعاني من “اختزال التاريخ”، إذ نقرأه انتقائيًا، ونتعامل معه كما لو كان مخزنًا لهويات جاهزة أو مخططات خلاص.
لكن التاريخ، كما يراه العروي، لا يكرّم أحدًا لمجرد نواياه، بل يعاقب من لا يفهم شروطه الموضوعية.
التاريخ ليس رواية… بل شرط للفهم
يرفض العروي النظر إلى التاريخ كمسار سردي تُجمّل فيه الهزائم وتُؤسطَر فيه الشخصيات. التاريخ، وفق تصوره، ليس ما نرويه بل ما يفرض منطقه علينا.
وإذا أردنا أن نخرج من دائرة التكرار، فعلينا أن نتخلى عن “سحر الماضي” ونُخضعه للتفكيك النقدي.
التاريخانية ضد التوفيق
من أبرز تجليات التاريخانية عند العروي أنها تضع الفكر أمام مسؤولية الفهم لا التوفيق.
فهي ترفض محاولة “ترقيع” القيم الحديثة داخل أثواب تراثية، وترى أن كل محاولة لجعل المفاهيم السياسية الحديثة “إسلامية”، مثل الديمقراطية أو حقوق الإنسان، ليست سوى شكل من أشكال النكوص الفكري.
التاريخانية، إذن، ليست جسرًا بين الماضي والحاضر، بل حاجزًا ضروريًا يمنع الانزلاق إلى التلفيق.
الزمن الثقافي: لماذا تأخرنا؟
يستعمل العروي التاريخانية كمرآة ليرينا ملامح التأخر العربي لا بوصفه تأخرًا تقنيًا، بل بوصفه فشلًا في إدراك إيقاع الزمن الثقافي.
فهو يصرّ على أن الفرق بيننا وبين الغرب ليس في “الأصالة” أو “الهوية”، بل في أننا لم نحسم بعد معنى الزمن نفسه.
نحن لا نزال نعيش في ما يسميه “اللازمن”، حيث كل شيء يعود، وكل شيء يعلّق، وكل شيء يُؤجّل.
التاريخانية كمسؤولية
في النهاية، لا يدعونا العروي إلى الإيمان بالتاريخ لمجرد أنه واقع، بل لأنه مسؤولية.
أن تكون تاريخانيًا لا يعني أن تكون تابعًا للماضي، بل أن تتحمل كلفة مغادرته.